Sunday, October 2, 2016

عن بعض مؤدّيات فشل الاتفاق الروسي الأميركي في سوريا وسيناريوهات الأشهر المقبلة

إنهار وقف إطلاق النار في سوريا، الذي كان اتّفاقٌ روسي أميركي قد فرضه في 11 أيلول/سبتمبر 2016، وانهارت معه مؤقّتاً مجموعة تفاهمات، كان يمكن أن تُفضي الى مرحلة تعاون عسكري مباشر بين موسكو وواشنطن.
النصّ التالي هو قراءة في خلفيّات الاتفاق وأسباب ترنّحه راهناً، وما يمكن أن ينتج عن سقوطه بالكامل أو عن العودة إليه والسير في خطوات تنفيذه والولوج الى مرحلته الثانية وموجباتها لاحقاً.

لافروف كمبادرٍ وكيري كمتلقٍّ

قادت الديبلوماسية الروسية المدعّمة منذ 30 أيلول/سبتمبر 2015 بآلاف الغارات الجوية ضد قوى المعارضة السورية المسلّحة، حملةً على مستويَين. مستوى البحث عن حلّ سياسي يُبقي الأسد ونظامه مع إدخال شخصيات "مستقلة" و"معارِضة" الى حكومة "وحدة وطنية" تنسف مبدأ انتقال السلطة المنصوص عليه في بيانات جنيف، ومستوى الدفع نحو حلّ عسكري يقوم على التقدّم الثابت والبطيء لقوات النظام وحلفائها اللبنانيين والعراقيين المدعومين إيرانياً، وقضمها التدريجي لمناطق على خط درعا – دمشق – حمص – حماه - حلب وتحصين "حدود" محافظتَي اللاذقية وطرطوس. بمعنى آخر، عمل الروس على كسب الوقت ديبلوماسياً محاولين فرض منع البحث بمصير الأسد، ودفعوا بموازاة ذلك نحو تنفيذ عمليات عسكرية لا تُبقي أي تواصل ترابي بين المناطق التي تنتشر فيها قوى المعارضة، وتعزل محافظة إدلب عن سواها، بما يمكّنها من القول لاحقاً إن سوريا باتت مقسّمة الى مناطق يسيطر عليها النظام وفيها المدن الكبرى، ومناطق تسيطر عليها "داعش"، ومناطق يتوسّع فيها الأكراد. أما الباقي، فجيوب معارِضة معزولة ومنطقة واحدة واسعة تُسيطر عليها جبهة "فتح الشام" ("النصرة" سابقاً)، المُتّفق بين موسكو وواشنطن على تصنيفها إرهابية. وفي هذا ما يجعل كلّ مطالبة برحيل الأسد بلا طائل أو مبرّر ميداني، وما يمكّن الروس من تكثيف قصفهم على محافظة إدلب، تاركين للضباط الإيرانيين إدارة العمليات العسكرية ضد الجيوب المعارِضة المحاصرة.

من جهتها، لم تبذل واشنطن أي جهد جدّي لمواجهة مستويَي الحملة الروسية. فسياسياً، تناقضت التصريحات الأميركية بين الحديث عن مشروطية رحيل الأسد أو القول بأن ذلك سيكون تتويجاً لمرحلة إنتقالية يشارك فيها، أو تجنّب التطرّق الى الأمر برمّته بما يوحي أنه بات موضوعاً غير مطروح راهناً. أما عسكرياً، فبعد إصرار على منع تسليم المعارضين صواريخ أرض – جو (كانت كفيلة منذ العام 2012 بتبديل موازين القوى جذرياً)، وبعد رفضٍ لكلّ بحث في فرض مناطق حظر جوي في سوريا، تعاملت واشنطن مع الشأن العسكري على نحو تجريبي ومن دون حزمٍ يمنع الروس من النجاح في خططهم أو على الأقل يقلّص فُرص ذلك. فبين تزويد بعض الفصائل في الشمال والجنوب بأسلحة خفيفة ومتوسّطة تُعينها على مواصلة القتال دون قدرة حسم، وبين ترك مهمّة الدعم الأساسية للحلفاء الإقليميين (تركيا والسعودية وقطر) والسماح بدخول مقنّن لصواريخ "تاو" المضادة للدروع القادرة على تصعيب مهمّة النظام وحلفائه في التقدّم، وبين وقف كلّ دعم للفصائل جنوبَ البلاد (عبر الاتفاق مع الأردن على إقفال الحدود) بما يُبعد "الخطر" العسكريّ عن دمشق ويطمئن الروس الى ذلك، لم تستقرّ السياسة الميدانية الأميركية على أمر، سوى قصف تنظيم "داعش" وتأمين الغطاء الجوي للمقاتلين الأكراد في الشمال والشمال الشرقي ضدّه.

وفي الأشهر الأخيرة، بدا أن إدارة أوباما ووزير خارجيّتها كيري، يسعيان الى أيّ اتّفاق مع الروس يجمّد الوضع العسكري ويخفّف الإحراج عن واشنطن نتيجة تزايد الانتقادات لها ولِـ"لا-سياستها" في سوريا، ويُعيد الحياة الى المسار التفاوضي في جنيف حتى وإن لم يتقدّم بسرعة. فالتفاوض ولو كان لمجرّد التفاوض يبقى في الميزان الأميركي، وعلى نحو ما كان يجري بين الفلسطينيين والإسرائيليّين، ضمانة لعدم التصعيد الميداني ومدعاةً للقول إن جهداً ديبلوماسياً يُبذل وإنّ بديله حرب ودمار إضافي.

ولعلّ تطوّرات شهر آب/أغسطس المنصرم، التي شهدت معركة حلب وتهجير داريا والدخول العسكري التركي الى الشمال السوري محاربةً لتنظيم "داعش" وللقوى الكردية، عجّل من وتيرة المفاوضات بين وزيري الخارجية لافروف وكيري وأنتج اتّفاقاً يحمل الكثير من الالتباسات والنواقص الفادحة، ويعكس تسرّعاً "ديبلوماسياً" أميركياً اعترض عليه "البنتاغون"، مقابل نجاح روسي يجعل تنفيذ الاتفاق أو تراجعه يصبّان في مصلحة الاستراتيجية الروسية في سوريا.

وقد قام الاتفاق على مبادئ تثبيت هدنة عسكرية في مختلف المناطق السورية، باستثناء تلك التي تشهد معارك مع تنظيم "داعش"، ووقف جميع الغارات الجوية التي لا تستهدف التنظيم المذكور، وإدخال مساعدات الى المناطق المحاصرة، وسحب المتقاتلين من محيط طريق الكاستيلو في حلب لتمرير المساعدات الى الأحياء الشرقية بضمانة برّية روسية. وتضمّن الاتفاق أيضاً تأكيداً على تأسيس "شراكة" أو تعاونٍ روسي أميركي يلي ثبات الهدنة ودخول المساعدات، ويستهدف هذه المرّة إضافة الى تنظيم "داعش" و"جيش خالد بن الوليد" المحسوب عليه (والمتواجد في بعض الجيوب في محافظتَي درعا والقنيطرة) تنظيم "فتح الشام" ومجموعات "جند الأقصى" و"الحزب الإسلامي التركستاني" في أرياف حلب وإدلب وحماه. ويفترض الاتفاق أن واشنطن ستسعى لإبعاد من تُعدّ فصائل "معتدلة" عن المجموعات المذكورة، خاصة تلك المنضوية في "جيش الفتح" (مع جبهة "فتح الشام") وتسلّم موسكو معلومات حولها لتجنيبها القصف، مقابل ضمان الأخيرة عدم تحليق طيران نظام الأسد في أي منطقة تعاون عسكري روسي أميركي. وإذ وافقت الخارجية الأميركية ومعها البيت الأبيض على ما ذُكر بعد أن رفضا طلب الروس إضافة "أحرار الشام" و"جيش الإسلام" الى لائحة القوى "المتطرّفة" المُستهدفة، تحفّظت وزارة الدفاع الأميركية على الاتفاق واعتبرته تسليماً كاملاً بالدور الروسي في سوريا ومساعدةً من دون مقابل لموسكو في خططها وكشفاً لطُرق عمل الولايات المتحدّة مخابراتياً وعسكرياً على الأرض.


لم يتطرّق الاتفاق الى شروط المسار السياسي، باستثناء الدعوة لاستئنافه، وغاب ذكر النظام بالتالي عن بنوده، فبدا الأخير وكأنه غير مسؤول عن أي جريمة تستحق التصنيف الإرهابي أو توجب استهدافه (وكذا بالنسبة لحلفائه الإقليميين)، رغم أن تقريراً أممياً سبق الاتفاق بأيام واتّهم النظام باستخدام الكلور في قصفه المدنيّين. وغيّب الاتفاق أيضاً كل ذكر لقضية المعتقلين والمخطوفين ولمصير المدنيّين المحاصرين واحتمالات تهجيرهم (على نحو ما جرى في داريا). وبدا بالتالي، إضافة الى فوقيّته وانحيازه للنظام وتصنيفه "الجماعات الإرهابية" بما يناسب روسيا وأميركا حصراً وبمعزل عن كل مجرياتٍ على الأرض السورية، متجاهلاً لأبسط الحقوق الإنسانية للسوريّين: الحق في رفع الحصار وليس إدخال المساعدات فحسب، والحق بالتحرّر من المعتقلات، وفي مقدّمها معتقلات النظام" التي ذكر آخر تقارير "منظمة العفو الدولية" قبل أربعة اسابيع أن ثلاث مئةٍ من قاطنيها يموتون كل شهر نتيجة التعذيب والمرض والجوع.

تداعيات الاتفاق ومؤدّيات انهياره

أدّى الاتفاق في أسبوعه الأول الى تراجع العمليات القتالية في معظم الأراضي السورية، والى تراجع القصف الجوي ولو دون إيقافه. وفي الأمر ما قلّص أعداد الضحايا المدنيّين، وهذه الفائدة العظمى والوحيدة منه. في المقابل لم تدخل المساعدات الإنسانية الى المناطق المحاصرة بسبب تمنّع حواجز النظام وحلفائه عن السماح لها بالمرور.

وفّر الاتفاق للنظام السوري وحلفائه ولبعض قوى المعارضة المسلّحة فرصة إعادة تنظيم قواها وانتشارها ميدانياً في محيط حلب وعلى مداخلها، وأتاح لروسيا إظهار قيادةٍ دولية للمسار السياسي ولاحتمالات تحويله الى مسار عسكري مشترك مع الأميركيين. والأهمّ بالنسبة لموسكو، أنه خلق حالة اضطراب سياسي شديد لدى الفصائل والكتائب السورية المعارِضة نتيجة صعوبة الانفكاك الميداني عن "فتح الشام" وما يعنيه ذلك من توتّر معها في مناطق لا تتداخل فيها المواقع العسكرية فحسب، بل صلات القربى بين المقاتلين وروابط المكان ومشاعر التعرّض المشترك للظلم أيضاً. وهذا يعني أن الانفكاك قد يولّد صدامات وتشظّياً خطيراً، في وقتٍ يضع الإبقاء على التحالف الجميع أمامَ استحقاقات القصف الروسي الأميركي المشترك. كما أن الخلاف بين الخارجية الأميركية و"البنتاغون"، وتمنّع واشنطن عن نشر نص الاتفاق كاملاً وعن التشاور مع الحلفاء الأوروبيين والإقليميّين بشأنه، أظهرا الارتباك الأميركي الذي أحدثته الخطوات الروسية وبيّنا غياب كلّ مبادرة قيادية أميركية.

على أن عدم استيفاء أسبوع الهدنة لخطوات إدخال المساعدات المنصوص عليها الى المناطق المحاصرة وتحميل الأمم المتّحدة النظام المسؤولية عن ذلك، ثم الغارة الأميركية في دير الزور التي سقط فيها عشرات الجنود من النظام قتلى وجرحى والتي قالت واشنطن إنها استهدفت بالأساس مواقع لتنظيم "داعش"، معطوفةً على الغارتين الروسية والأسدية على قافلة المساعدات الإنسانية الأممية التي جهّزها الهلال الأحمر السوري وعلى الوحدة الطبّية اللتين قُتل فيهما أكثر من 20 عامل إغاثة ومسعف ومعالج، أدّت جميعها الى توقّف العمل بالاتفاق الروسي الأميركي. وقد أعلن نظام الأسد في 19 أيلول/سبتمبر إنتهاء الهدنة، وباشرت قوّاته قصف أحياء حلب الشرقية وتنفيذ غارات جوية على العديد من المناطق في الأرياف الحلبية والإدلبية. وتبع ذلك ابتداء من 22 أيلول/سبتمبر تصعيد عسكري كبير وكثافة قصف جوي غير مسبوقة من قبل الطيران الروسي، تقدّمت تحت غطائه قوات النظام وحلفاؤها في منطقة مخيّم حندرات (شمال شرق المدينة). وقد سقط خلال القصف المذكور أكثر من مئة وخمسين قتيلاً مدنياً، في جرائم حرب إضافية وفي انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني.

سياسياً، ردّت قوى المعارضة السورية بالقول إنها "لم تعد معنية بالعملية السياسية" في ظلّ حرب الإبادة التي تتعرّض لها حلب. وعلى الأرض، اندمجت في محافظة إدلب كتائب ووحدات عسكرية عديدة (صقور الجبل والفرقة 13 والفرقة الشمالية) ضمن "جيش إدلب الحر"، الذي عاجله الطيران الروسي بالاستهداف المباشر. وبدا أن موسكو تتّجه الى تغيير المعادلة العسكرية في مدينة حلب واستئناف غاراتها الجوية في باقي المناطق بما يعني العودة الى العمل العسكري لفرض الإرادة السياسية.

ولم تردّ واشنطن على الأمر في ما يتخطّى استنكاره اللفظي، والدعوة مع باريس ولندن لانعقاد اجتماع لمجلس الأمن في 25 أيلول/سبتمبر. وقد نجم عن الاجتماع إدانة أميركية فرنسية بريطانية لجرائم الحرب الروسية والأسدية في حلب، مقابل دفاع من النظام عن سياساته ومن روسيا عن مواقفها، وتلكّؤ من الأمين العام بان كي مون ومن المبعوث الخاص الى سوريا دي مستورا في توجيه أصبع الاتّهام الى من ينفّذ "جرائم الحرب".

سيناريوهان للأسابيع المقبلة

يُتيح ما تقدّم ومعه بعض التجارب السابقة القول إن احتمالات تبديل المقاربات الدولية للمسألة السورية في الأسابيع المقبلة ضئيلة جداً. وهذا يعني أننا أمام احتمالين رئيسيّين.

الاحتمال الأول، إستمرار التصعيد الروسي وسعي موسكو الى تمكين النظام ومقاتلي حزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية والضباط الإيرانيين من تحقيق "إنجاز عسكري" شرقي حلب، بالترافق مع استمرار تنفيذ خطط قضم الأرض وتهجير سكّانها (في الوعر في حمص وفي المعضمية والعديد من بلدات جنوب دمشق)، بهدف إعادة البحث السياسي بعد تبدّل جديد في موازين القوى لصالح النظام.
وستواجه ذلك نفس المواقف الأميركية غير الحازمة، التي قد تسمح للحلفاء الإقليميين بمدّ بعض فصائل المعارضة بالسلاح للدفاع عن نفسها وعرقلة "الإنجاز" الروسي-الأسدي، من دون "تورّط مباشر" ومن دون التزامات واضحة الى حين نهاية عهد الرئيس أوباما أواخر العام الحالي.

والاحتمال الثاني، الأضعف، هو العودة الى الاتفاق الروسي الأميركي، والبحث في إعلان هدنة جديدة ووقف للنار في حلب، مع تركيزٍ هذه المرة على التسريع في الخطوات المفضية الى تنفيذ العمل العسكري المشترك ضد الجماعات المصنّفة إرهابية، وتأجيل البحث مجدّداً في مصير الأسد. وهذا إن حصل، سيعني ضرباً مشتركاً روسياً أميركياً لمواقع جيش الفتح في حلب وإدلب وريف حماه، أي في المناطق الواسعة ذات العمق والمفتوحة على الأراضي التركية التي ليس بمقدور النظام وحلفائه استعادتها، وسيعني أيضاً استمراراً في الضغط لتجميد القتال في الجنوب، والتفرّغ لمفاوضة أنقرة على شكل استمرار تدخّلها في سوريا وعمقه ودور قوّاتها في العمليّات ضد "داعش" في الرقة وتخفيق التوتّر بينها وبين الميليشيات الكردية المدعومة من واشنطن.


الخياران المطروحان في الأشهر المقبلة يصبّان إذاً في صالح السياسة الروسية المتّبعة "ديبلوماسياً" و/أو عسكريّاً. وإي موقف أميركي حاسم في مواجهة ذلك يبدو مستبعداً. وهذا يفترض بالتالي بحثاً من قبل المعارضة السورية (وبعض حلفائها الإقليميين) في أشكال تدعيم الصمود العسكري في الفترة المتبقّية من العام الحالي وإمكانياته، وسُبل إطلاق المبادرات السياسية والقانونية في المحافل الدولية. بمعنى آخر، يتطلّب الأمر المزيد من التنسيق العسكري على المستوى الوطني السوري وليس فقط وفق المنطق المناطقي السائد حالياً. ويتطلّب كذلك توزيع أدوار وتفاهمات ميدانية بين الفصائل المقاتلة لتجنّب التوتّرات ولتصعيب مهمّة الاستهداف الأميركي الروسي المشترك إن حصل. بموازاة ذلك، لا بدّ من التركيز بلغة حقوقية (واستعانةً بالمنظمات الدولية غير الحكومية وبالخبراء القانونيين السوريين وأصدقائهم) على ملفات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها نظام بشار الأسد بما يُبقي إمكانية مقاضاته قائمة، ويصعّب كل تطبيع دوليّ مباشر معه، ويفرض على أي بحث عن حلّ سياسيّ جديّ لاحقٍ طرحاً واضحاً حول مصيره سياسياً وقضائياً...
زياد ماجد
ورقة "تقدير موقف" مكتوبة بتاريخ 26 أيلول/سبتمبر 2016، ومنشورة في مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "انسداد دبلوماسي: آفاق انهيار الهدنة في سوريا"