Tuesday, August 28, 2012

داريا: كاميرا القتل والساديّة

تعبّر تغطية تلفزيون "الدنيا" لمجزرة داريا في سوريا، في ما هو أبعد من الغباء والانحطاط الأخلاقي المعهودَين، عن ساديّة جرميّة جمعت جنوداً وشبّيحة بصحافيين ومصوّرين.
فالكاميرا التي تجوّلت برفقه مقاتلي النظام بين جثث ضحاياهم وجرحاهم والناجين من طلقاتهم وحرابهم لم تكن تبحث عن توثيق أو تغطية أو روايةٍ لقصصِ موت ونجاة. كانت تريد إذلال القتلى وقهر الناجين. كانت تستكمل جريمة النظام، وكأنها تحمل سلاحه وتواصل إطلاق النار أو التهديد بإطلاقه على الوجوه والأجساد المعروضة في لحظة ضعفها الانساني الاستثنائي، أمام أعين محقّقين وشامتين وصامتين ومذهولين.

هكذا، بدت مقابلات الكاميرا عمليّات تنكيل بالجثامين وابتزاز علنيّ لذويهم. بدت تقول إن النظام لم يعد يكتفي بالقتل وبالتعذيب وبإطلاق النار على الجنازات. صار يريد أيضاً إذلالاً مشهدياً للقتلى وأهلهم. يريدهم في مظهر انكسار واستسلام لحظة الفجيعة، ويريد الاحتفال بنصر عليهم وبدوس على دمائهم ودموعهم وأكفانهم.

أكثر من ذلك، بدا النظام وكاميراه يحضّان مريديهما على الشماتة بداريا، وعلى احتقار الموتى والأحياء فيها وكراهية كل ما مثّلته وتمثلّه في مخيّلة الثورة السورية كما في يوميّاتها. وبدت "الصحافية" (العصرية في مظهرها) التي تسأل الطفل عن أمّه الذبيحة وتحدّثُ السيدة (المحجّبة والمحافظة) النازفة عن آلامها كمن يدعو الى الاحتفاء بموت ينبعث من "تلفزيون الواقع"، ليعلن انتصاراً للقاتل وتهنئة له.


هي الساديّة بوصفها مرضاً مستفحلاً في سلوك نظام قاتل، وبوصفها كذلك سياسةً لإعادة بعض هيبته المهشّمة منذ أشهر طويلة. وهي الجريمة التي لم تعد تقوى على احتمال جنازات ضحاياها وما تُطلقه من إرادات تحدٍ وعهود استمرار للحياة لحظة الدفن. تريدهم موتى بصمت وتنصّل من كل موقف فردي وجماعي من القاتل. تريدهم بلا شعارات وهتافات وعيون تشيّعهم، لا بل تريدهم عبيداً يموتون ويعيشون بمهانة تصوّرها الكاميرا وتجعلها مادة سمعية بصرية تمحو المواد السابقة التي صوّرتها كاميرات أُخرى، أو بالإحرى، تحاول محوَها.

كاميرا "الدنيا" في داريا هي إذن كاميرا السادية والجريمة والخوف والبحث عن سطوة مشهدية. وهي فوق هذا كاميرا تكره الصورة-الحقيقة وتحتقر الناس المصوَّرين-الحقيقيين. هي اختصار المساحة الشاسعة بين "دولة" السكاكين والذبح و"مجتمع" البحث عن القيامة بعد عقود من الموات.

وكاميرا "الدنيا" في داريا هي أيضاً كاميرا عار الساكتين عن القتل، والمتفرّجين على القتلة والقتلى وكأنّهم أمام فيلم محايد لا روائح دم فيه ولا مستقبل حياة مشترك مع "أبطاله" بعد انطفاء التلفزة...
زياد ماجد