Sunday, July 1, 2012

الحرّية... واستئناف الحياة

تستعيد المنطقة العربية منذ أكثر من عام علاقتها بالزمن، ويَعبُر ناسُها رغم المصاعب والعثرات من مرحلة القمع التي حاصرتهم لعقود طويلة الى مرحلة الانعتاق من الاستبداد والبحث في حقول الاحتمالات، حقول المجهول، حقول الحرّية. 

-1-

تستعيد المنطقة علاقتها بالزمن إذ تحاول استئناف الحياة من حيث عطّلها تأبيد الحُكم في معظم بلدانها في شخص أو عائلة أو حزب ورفع شعارات لا زمنية ولا وضعيّة لإظهار الوقت عنصراً مضبوطاً الى ساعة الحاكم، يسيّر العقارب أو يوقفها وفقاً لتوقيت الجلوس (الانقلاب) أو التوريث أو الاحتفال بذكراهما.

وتستعيد المنطقة أيضاً علاقة ناسِها بالمكان، بالحيّز الجغرافي المفتوح على حركتهم وحرّيتهم، يعيدون نسجه للتواصل في ما بينهم وعبور الجدران التي شيّدها التسلّط وفرضتها كواتم الصوت والزنازين. يعيدون رسم خرائطهم بما هي خرائط إنسانية تضمّهم الى مدنهم وقراهم التي كان الخوف يسيّجها ويجعل كل واحدة منها سجناً بسماءٍ مفتوحة.

تنبعث المنطقة العربية إذن، في ربيع طويل يخترق الفصول أو هي تخترقه، وتخوض سُبلاً متعرّجة وشائكة ومُقلقة، تشبه سُبل الحرّية المُفضية أسئلةً لا يتناسل منها سوى المزيد من الأسئلة. هو مخاض اكتشاف الذات والعودة الى العيش "الطبيعي". ذلك الذي يملك الفرد فيه أن يقول إنه مختلف، وأن يمشي في الشارع بلا ملاحقة العسَس، وأن يكتب أو يغنّي دون أن يراقب كلماته ويعطّل بعض أوتاره الصوتية خشية مقصّ الرقيب أو مقصلته. وهو مخاض مليءٌ بالدهشة؛ باكتشاف مخزون الخيال الذي كبحته سنوات الصمت حتى كاد يبدو مُحتجزاً في غيبوبة لا قيامة منها؛ وباكتشاف السخرية والضحك الذي ينكّل بالطغاة فلا يترك لجدّيتهم ورصانتهم المصنوعة بالحديد والنار مكاناً تحت الشمس.

-2-

لكن ما الذي جعل هذه المنطقة تنهض اليوم؟ ما الذي دفع ملايين الناس في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا وغيرها الى الاستيقاظ عامي 2011 و2012؟

تتعدّد العوامل التي يمكن لعلماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد البحث فيها.
منها ما يرتبط بتغوّل الاستبداد المقرون بالفساد في السنوات الأخيرة، وبلوغه مراتب فجور صار استفزازها للناس يدفع غضبهم الى حدود تحدّي الاستكانة والسكون.
ومنها ما يرتبط بارتفاع نسبة التعليم بين العرب وبروز جيل جديد يملك مقوّمات التمرّد على المنظومات التي استسلم لها أهله، إن لِصلته بما تتيحه شبكات المعلوماتية من تواصل مع العالم، أو لفرديّته التي توقظ وعيه بذاته وكرامته.
ومنها أيضاً ما يتّصل بآثار التحوّلات الاقتصادية في العقدين الأخيرين التي هشّمت قطاعات زراعية وصناعية واسعة الاستقطاب لليد العاملة لصالح قطاعات جديدة خدماتية أو تجارية ضرورية لمواكبة تطوّرات العصر، لكنّها غير كافية لخلق فرص عمل وفيرة أو تعميم فوائد تعوّض على عائلات المطرودين من قطاعات انخراطهم السابقة بعض خسائرهم.
ومنها كذلك التبدّلات الديموغرافية التي شهدتها المنطقة العربية عموماً، لجهة تباطؤ النموّ السكّاني وانخفاض معدّلات الخصوبة وارتفاع سنّ الزواج وما يعنيه الأمر من توفير حيّز أكبر للجيل الجديد كي ينشط سياسياً دون أن تُعيقه الأثقال والأعباء الاجتماعية المُبكرة بالمقدار نفسه الذي كانت تُعيق أهله والأجيال التي سبقته. وهذا، معطوفاً على تقدّم الخيارات الفردية، سمح للشباب بالنزول الى الساحات، ودفع الشابات الى مشاركتهم، تأكيداً لمساواتهنّ بهم تطلّعاتٍ ومتطلّبات، بمعزل عن الرحلة الشاقة التي ما زالت تنتظرهنّ لفرض حضورهنّ وانتزاع حقوقهنّ المسروقة أو المصادرة أو المنسيّة.
ومنها أيضاً وأيضاً توسّع المدن والتجمّعات السكنية على نحو يُتيح التواصل الجغرافي المباشر بين كتل بشرية تتشارك الخصائص المكانية ولو كانت من خلفيات أو أصول مختلفة.

وقد أضافت مواقع التواصل الاجتماعي التي وفّرها توسّع شبكات الانترنت في المنطقة (وتزايد عدد مستخدميها باضطراد) الى كّل ما ذُكر عنصراً حاسماً جعل الإعلام بلا قيود، ومكّن المواطنين من التحاور وإنتاج المواقف السياسية سوياً. وما إن بدأت الثورات حتى صارت الفوارق بين العالم الافتراضي ومُقابله الواقعي محدودة، فتحوّل الافتراض نفسه الى وسيلة تعبئة واقعية ومساحة التقاء وانتفاض تحمل كل ضروب الإبداع والتعبير عن تراكم الغضب من جهة، وعن التوق الى الحرّية والعزّة من جهة ثانية.


-3-

"الحرّية أو لا شيء!"
يمكن لشعار بسيط كهذا حوّلته أيادٍ في الليل الى غرافيتي على جدار في القاهرة أو دمشق أن يلخّص
عاماً من الثورات والتحرّكات والصدامات والتضحيات. ويمكنه أن يلخّص أيضاً عاماً من الرعب الذي أصاب المستبدّين، المخلوعين منهم أو الذين يحرقون الأرض والناس تأجيلاً لسقوطهم وطيّ صفحاتهم البائسة.
"الحرّية أو لا شيء!"
شعار رفعه شبّان وشابات لإشهار الانتماء الى الحياة في مواجهة العدم، والى المعنى في مواجهة الخواء. إنتماء أعلنته أجسادهم المُشتعلة حركةً وحناجرهم التي استعادت الأصوات وانتزعتها من داخل الصدور المكبوتة لتنثرها في الساحات العامة ضجيجاً وأغنيات. لتُحيل الشوارع التي احتلّتها أجهزة المخابرات واستباحتها صُور "الزعيم المفدّى" على مدى عقود الى مساحات موسيقى ورسم وإعلانات ولادة.

- 4 –

تستحقّ الحرّية المُنتزعة التي مات ويموت في سبيلها رجال ونساء على امتداد رقعة منطقتنا خوض جميع الامتحانات القاسية المقبلة، وما أكثرها، للدّفاع عنها وحمايتها وتحويلها الى بداهة تُخلَق الأجيال المقبلة وتحيا في ظلّها.
وهي في أي حال، إذ تتّخذ اليوم أسماء عَلَم توحّد مدناً وبلدات وشهداء ومعتقلين وأحياء ينتزعون غدهم بأظافرهم، تنسج لنا أبجديّةً جديدة لن يقدرَ دمٌ أو خوف على محوِها، ولن تحُدّ قاموسها اللغوي الجديد لا وعود الجنّات الأرضية، ولا تلك السماوية.
"حرّية... للأبد"!
زياد ماجد
تقديم لكتاب مهرجانات بيت الدين 2012، ومحوره الحرية