Tuesday, October 4, 2011

اليَمن بين الربيع والحرب

شكّلت عودة علي عبد الله صالح الى اليمن مفاجأة لكثر من المراقبين. فبعد نجاته من عملية اغتيال في 3 حزيران الفائت لم تنجلِ كل ملابساتها بعد، وبعد بقائه فترةً تزيد على الثلاثة أشهر في السعودية للعلاج ثم النقاهة ثم البحث عن مخارج سياسية "للأزمة اليمنيّة"، جاءت العودة لتؤشّر الى تراجع فرص الحلول السلمية في البلاد واتجاه الأمور نحو تصعيد، قد لا يكون أقلّ من حرب أهلية.
ولذلك أسباب عدّة يمكن التوقّف عند أهمّها.

فصالح ما زال يتمتّع بولاء الحرس الجمهوري الأكثر تجهيزاً وتدريباً الذي يقودها ابنه، وأجهزة المخابرات والأمن التي يقودها ابن أخيه، وعدد من الفرق العسكرية التي عيّن في مفاصلها الرئيسية ضبّاطاً مقرّبين. كما أنه ما زال يستند الى تحالفات قبلية، ولو مُنحسرة، منتشرة جغرافياً في محيط صنعاء وفي جنوبها حتى وسط البلاد، والى شبكة "رجال أعمال" ومتموّلين وموظّفين استفادوا خلال حكمه الطويل ولديهم مصلحة كبرى في بقائه وبقاء أعوانه. وبالتالي، لا يعتبر نفسه في موقع ضعيف يفرض عليه "التنازل" عن الحكم في اللحظة الراهنة.

والمعارضة، التي سبق ورفضت - مثل صالح - معظم الوساطات، لم تستطع خلال الأشهر الثلاثة الماضية الاستفادة من غيابه لجعل رحيله أمراً واقعاً. فرغم امتلاكها المبادرة في الشارع، ورغم اتّساع جبهتها سياسياً ودعم معظم القبائل الكبرى لها، وانقسام الجيش وإعلان قسم من فرقه ووحداته تأييده لها، إلا أنها لم تتمكّن من تعديل ميزان القوى على نحو حاسم لصالحها لعدّة أسباب، منها:
- غياب برنامج الحدّ الأدنى المشترك بين فصائلها، وصعوبة القبول بالتنازلات التي كانت "العروض" قد تطلّبتها لأنها تعني التسليم ببقاء طاقم صالح الأمني والسياسي والاقتصادي في السلطة مقابل رحيل شخصه، مُحصّناً.
- غياب الوجوه القيادية القادرة على كسب التأييد الشعبي والحزبي (والقبلي) الواسع. فلا الشيخ حميد الأحمر (زعيم حاشد وابن مؤسّس التجمّع اليمني الإصلاح) يمثّل بديلاً يقبل به جميع الأطراف المحلّيين (والخارجيين)، ولا اللواء على محسن (الضابط الأعلى رتبة الذي انشق عن صالح وأعلن تأييد الثورة ونشر قوّاته لحماية ساحة التغيير في العاصمة حيث يتظاهر المعارضون) يحظى بإجماع أو بدعم أكثري لكونه ظلّ حتى مارس 2011 مع صالح وكان مِن أبرز أركانه. ولا قادة الحزب الاشتراكي اليمني يستطيعون تشكيل قطب جاذب لأكثرية القوى المعارضة نتيجة الخلافات السابقة والضعف والصبغات الجهوية. وطبعاً لم يسمح الوقت بعد للنخب الجديدة المنبثقة من الحراك الشعبي والطلابي من التقدّم وتوسيع رقعة الاستقطاب والمشروعية. وكل هذا يخلّف شعوراً لدى الوسطاء ولدى بعض القوى اليمنية المتردّدة أن بديل صالح غير "جاهز" بعد.


لذلك، يبدو الوضع في اليمن متّجهاً منذ أشهر نحو المراوحة، في وقت تتصاعد التوتّرات والاشتباكات المتفرّقة. ومع أن علامات ضبط النفس وعدم استسهال اللجوء الى السلاح ما زالت قائمة في بلاد تتخطّى أعداد قطع السلاح الفردي والمتوسّط فيها عدد السكان، إلا أن الوضع قد لا يدوم طويلاً على هذا النحو إذا انسدّت أفق أي تسوية سياسية مقبولة. وثمة علامات تعزّز بالفعل الخشية من تدهور الأمور.
- فتفكّك عرى الدولة يتكرّس، ومركزيّتها تتلاشى، والانقسامات الجديدة إن طرأت قد تكون أقرب الى الانقسامات الصومالية منها الى انقسام جنوب-شمال المعهود.
- وجرائم النظام ضد المتظاهرين المعارضين كما الهجمات المتبادلة بين القوى العسكرية النظامية تجعل المصالحات شديدة الصعوبة.
- وعجز الدولتين الوسيطتين، السعودية والولايات المتحدة، عن تحقيق أي تجسير بين الأطراف المعنية يترك الأمور بغير مكابح، ويجعل الرياض وواشنطن تكتفيان بتوفير ما يعنيهما أمنياً واستراتيجياً بمعزل عن أوضاع اليمن الداخلية. فالسعودية المشغولة بمسائل التوريث والقلقة من رياح الربيع العربي لم تعد ملفّات اليمن مجتمعة لدى طرف واحد فيها. وهذا ما يفسّر على الأرجح حرية حركة صالح وعودته الى اليمن بعد ما تردّد من نيّة في استبقائه. والولايات المتحدة التي تراقب وضع "القاعدة" (الذي يستفيد من تضخيمه صالح) في الجنوب، وتركّز على ضرورة منع تحوّل منطقة حيوية على مدخل البحر الأحمر ومقابل القرن الأفريقي الى مركز للإسلاميين الجهاديين، لا تبدو قادرة أو مستعدّة لبذل مساع إضافية للوصول الى حلول سياسية في صنعاء. والمبادرة المستجدة التي حكى عنها نائب الرئيس غير واضحة المعالم بعد.

... مع ذلك، تستمر المحاولات التي تقوم بها أطراف في المعارضة لإظهار حجم القوى الشعبية التي تريد إسقاط الرئيس ونظامه، ولمواصلة الضغط سلمياً عليه – وتوجيه رسائل من خلاله الى السعودية والولايات المتحدة – بأن لا مكان في يمن المستقبل "لمن حكم البلاد لعقود وفشل على أكثر المستويات فشلاً ذريعاً، ولا مكان كذلك لمن قتل مئات من المتظاهرين في الأشهر الستة الماضية" على ما يقول الجيل الشاب من قادة المظاهرات.

وعلى هذا الأساس، يمكن تعريف الأمور اليمنية اليوم بأنها سباق بين التغيير السلمي – أو شبه السلمي – والحرب. وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أن لا استقراراً ممكناً ما دام علي عبد الله صالح قابعاً في الحكم رافضاً التخلّي عنه، وأن كل مبادرة لا تلحظ ذلك بنداً أولاً لن تنجح أكثر من سابقاتها.
زياد ماجد