Sunday, June 26, 2011

أشكال جديدة للتعاون في المتوسط؟

يهدف هذا النص - وهو مساهمتي المكتوبة قبل 3 أشهر في كتاب صدر حديثاً حول أوروبا وشمال أفريقيا بعد الربيع العربي - إلى تقديم بعض الأفكار والاقتراحات حول سبل دعم الاتحاد الأوروبي للتحول الديمقراطي في العالم العربي عامة، وفي دول شمال أفريقيا خاصة.
يحاول النص قبل الخوض في ذلك عرض الواقع الجديد الذي تعيشه المنطقة العربية منذ عدّة أشهر.
For English version of this text (New forms of cooperation in the Mediterranean?), click here

عن انهيار جدار الخوف

يتطلّب استخلاص العبر مما جرى من ثورات ومن مسارات إصلاح في العالم العربي مزيداً من الوقت، خاصة إن أردنا التمييز بين التجارب المختلفة، والمقارنة بين أسبابها وأشكالها. كما يتطلّب الحديث عن مؤدّياتها بعض الرويّة، وذلك نظراً لانطلاق مسارات ما زالت متعرّجة وشائكة ويمكن أن تشهد الكثير من الانعطافات في الأيام والسنوات المقبلة.

غير أن قراءة أوّلية للأحداث التاريخية التي شهدناها، خاصة في تونس ومصر يمكن أن ترشدنا إلى بضعة استنتاجات، منها:

- أن انطلاق التحرّكات تطلّب شرارة عاطفية وانفعالاً حاداً، الذي بدوره حطّم قيود الرقابة الذاتية، وأنهى التطبيع مع الخوف، محرّراً الفرد والمجموعة من الثقل الرمزي لمؤسسات الاستبداد ودافعاً إلى مواجهتها.

أن النزول إلى الساحات العامة التي كانت دوما حكراً على احتفالات الأنظمة، أقام لأول مرة منذ زمن بعيد جسراً بين الحيّزين الخاص والعام، يعبره المواطنون بتحدّ ثم بتحرّر.

- أن الناس قادرون على الصمود سلمياً في الشارع والمثابرة ورفض التوقف عن إنجاز أهدافهم ما داموا يشعرون بانفتاح الأفق أمام المزيد من الإنجازات، وما داموا يلمسون أن آلة القمع فقدت المبادرة، أو أنها لم تعد كافية لممارسة بطشها نظراً لحجم الحضور الشعبي الضخم المواجه لها.

- أن الآثار السياسية لعصر المعلومات والعولمة تلعب الدور الحاسم في لحظات كالتي نعيشها. فالفضائيات تعمّم الصور المباشرة، ومواقع الانترنت والمدوّنات تنقل المعلومات والأخبار والمشاعر التي لا يقوى جهاز على قمعها، والمواقع الالكترونية الاجتماعية مثل الفيسبوك والتويتر واليوتيوب وغيرها تصبح أدوات التعبئة الأكثر فاعلية، والهواتف المحمولة بكاميراتها الذاتية وبخدمة الرسائل القصيرة تتحوّل سلاحاً فائق الأهمية يصعب ضبطها أو توقيف أصحابها. وهذا كله يولّد مع الحدث تعاطفاً شعبياً مباشراً يتخطّى كل حدود، من دون مفعول رجعي (وبعد فوات الأوان أحياناً) كما كان يجري في السابق، ويحرّك الناس في نفس التوقيت.

- أن الأنظمة الخائفة من انتقال عدوى الاحتجاجات والانتفاضات إلى بلدانها تضطر لإعلان إجراءات وقرارات إصلاحية، بهدف استيعاب الغضب الشعبي وتجنّب سيناريوهات ثورية مشابهة.

- أن روح السخرية الشعبية تتحوّل إلى عامل تمكين سياسي، يفكّك الطابع الصارم والقمعي للنظم البطريركية والتسلطية ويتهكّم عليها. ويجري التعبير عن هذه الروح في العلن بعد أن كانت في السابق ملاذاً خاصاً يلجأ إليه الناس للترويح عن نقمتهم وإحباطهم ومخاوفهم.

- أن التبدل الديموغرافي والتمركز المديني لأكثرية السكان في الدول العربية، كان له الأثر العميق في تمتين التعبئة الشعبية (والشبابية خاصة)، نتيجة التواصل "الترابي" بين الناس الذي لم تعد انقطاعات العمران في الريف أو في البادية تعيقه. وهذا سمح بجعل المواطنين يتفاعلون مباشرة وينسّقون في ما بينهم خلال التحرّكات، من دون حواجز أو عوائق جغرافية.

يبقى أن هناك أسئلة يصعب التكهّن بأجوبتها في الوقت الحالي، هي ما ستحدّد بعض الاتجاهات في المرحلة القريبة المقبلة:

أ- هل سنشهد عمليات تحوّل ديمقراطي سريعة تنتج سلطات منتخبة وفق قوانين انتخاب جديد، وفصل سلطات وحكم قانون ودستور، أم أننا سنكون أمام مرحلة انتقالية قد تطول (ويمكن أن تتغيّر موازين القوى فيها) تاركة الجيش وبعض النخب السياسية القديمة تلعب أدواراً أساسية خلالها؟

ب- وما هو الدور المقبل للإخوان المسلمين في المنطقة، لا سيما في مصر، وما سيعنيه الأمر من تبدّلات عميقة إن هم تقدّموا، ومن إثارة حالات قلق لدى بعض شركائهم في الانتقاضات الشعبية، ناهيكم عن أطراف أخرى من الخارج القريب والبعيد؟ وهل تصبح تركيا نموذجاً يتطلّع إليه الأخوان العرب، أم أن ثقافتهم السياسية التقليدية هي ما سيظل حاكماً خطاهم؟

د- وكيف ستبني الأحزاب العلمانية والحركات الاجتماعية المنبثقة عن الحراك السياسي في الشارع تحالفاتها وبرامجها السياسية مواكبةً للمراحل الانتقالية وتحضيراً للانتخابات المقبلة؟

ه- وماذا عن السياسات الخارجية للحكومات الجديدة، وما هي الآثار والتداعيات الإقليمية لهكذا سياسات مستجدة؟


تقودنا الأسئلة المذكورة والملاحظات السابقة إلى التعامل مع قضية "ما يمكن للاتحاد الأوروبي فعله لدعم الديمقراطية وحكم القانون في الدول العربية، لا سيما في تونس ومصر وليبيا والجزائر والمغرب"، أخذاً بالاعتبار الوقائع المستجدة والبيئة السياسية المتغيرة. والأفكار التالية هي محاولة للإجابة عن ذلك، وهي تنقسم إلى ثلاثة محاور: الأول مرتبط بإعادة بناء المؤسسات، والثاني بالتعاون الاقتصادي، أما الثالث فمرتبط بسبل دعم المجتمع المدني وقضاياه ومبادراته.

أولاً: في بناء المؤسسات

لعل أبرز التحديات التي يمكن الوقوف عليها في البلدان العربية اليوم، هو تحدّي التعامل مع إعادة بناء المؤسسات الديمقراطية التي يمكنها تأمين فصل السلطات واستقلالية القضاء ومهنية أجهزة الشرطة والأمن واحترافها.
وما يمكن للاتحاد الأوروبي فعله في هذا المجال يكمن في:
- تأمين الخبرات للجان الوطنية العاملة على إعداد مسودات لقوانين انتخابية توفّر نزاهة الانتخابات وعدالة تمثيل القوى السياسية في كل بلد. وهذا سيسمح بتدعيم مشروعية البرلمانات، وسيمنح السلطة التشريعية مصداقية شعبية تساعدها على فرض نفسها كمؤسسة فاعلة تؤدّي الأدوار الهامة التي يفترض أن تؤديها في الديمقراطيات الحديثة.
- المساعدة في إيجاد مساحات عمل مشترك للقضاة والخبراء القانونيين من أجل صياغة تشريعات تحمي استقلالية القضاء، وتعيد بناء الثقة بين المواطنين وفلسفة القانون. فمن خلال إظهار فاعلية الأجهزة القضائية واستقلاليتها، يمكن لحكم القانون أن يسود وأن يطمئن الناس إلى جدوى الثقة بأجسامه.
- تدريب الشرطة والأجهزة الأمنية على أسس الولاء لمؤسسات الدولة الدستورية. أصبح من الضروري اليوم تغيير أدوار الشرطة والأمن في المجتمعات العربية، ذلك أن الأدوار القديمة قامت على أساس الولاء للأنظمة الحاكمة وأحزاب السلطة من ناحية، ووفق ثقافة تسلط وممارسات قمع من ناحية ثانية. وتغيير هذه الأدوار والثقافة، بالإضافة إلى تطوير مناهج دراسة حقوق الإنسان في برامج إعداد الشرطة وأكاديميات الأمن، والأهم معاقبة أي انتهاك من قبل الأجهزة المذكورة لحقوق الناس، سيبدّل المفاهيم التي قامت منذ زمن،  ويساعد المواطنين على بناء ثقة وعلاقات جديدة مع الجهات المفترض بها حمايتهم.

إن إعادة الهيبة والمصداقية إلى البرلمان كجسم تمثيلي وتشريعي ورقابي، ثم إلى القضاء كمؤسسة مستقلة تحمي حكم القانون، ثم إلى الشرطة وفروع الأمن بوصفها ضمانة للدفاع عن أمن الدولة والمجتمع وصون القانون وتطبيقه، هي إجراءات ستبدّل الفهم القائم للسياسة ولمهام السلطات وواجباتها وأساليب تعاملها مع المواطنين. وكل ذلك، سيؤثّر في عمل السلطة التنفيذية نفسها، جاعلاً إياها تحت رقابة البرلمان، ومفسحاً المجال أمام إقامة علاقات أكثر توازناً بين السلطات المختلفة.

ثانياً: في التعاون الاقتصادي والشفافية

في مجتمعات تميّزها الديموغرافيا الشابة، والحاجة إلى خلق مئات الألوف من فرص العمل سنوياً لاستيعاب تدفّق الباحثين عن عمل، يُعدّ التركيز على تعديل السياسات الاقتصادية وتنظيم المجالات المنتجة على قدر عال من الأهمية. بهذا المعنى، يمكن القول إن تطوير أسس جديدة للتعاون الاقتصادي مع القطاعين العام والخاص هو اليوم أولوية، ليس لما يدرّه هكذا تعاون من أرباح مباشرة فحسب، بل أيضاً لما يؤسس له من استقرار وازدهار على المدى البعيد للمجتمعات المعنية.
لذلك، فإن تقديم الحوافز وإقامة البرامج المشتركة والتأهيل المهني والمبادرات المتخصصة، تماماً كما أن توظيف الاستثمارات ضرورة لتطوير الاقتصادات الوطنية في شمال إفريقيا وتوسيع القواعد الاجتماعية لهذه الاقتصادات. وسيؤدّي هكذا أمر إذا تحقّق إلى تقليص الهجرة نحو أوروبا، ومحاصرة التوتّرات الاجتماعية ورقع الفقر، كما سيؤدّي إلى السماح لديناميات اقتصادية جديدة بالظهور.

وثمة عوامل ثلاثة ينبغي التركيز عليها في المستقبل القريب لتعديل الممارسات السابقة وآثارها:
- العامل الأول هو عامل التوزّيع الجغرافي واللامركزية الاقتصادية للمشاريع في البلدان المتلقية للمساعدة أو لمشاريع التعاون، بهدف خلق فرص عمل في مختلف المدن والمناطق.
- العامل الثاني هو تنويع الأنشطة الاقتصادية لإفادة القطاعات المنتجة جميعها والمساهمة في تطويرها.
- والعامل الثالث والأهم هو التركيز على عنصري الشفافية القانونية والمالية والمسؤولية الاجتماعية للاستثمار، لتخطّي عقلية الربح السريع التي سمحت للفساد وللمحسوبية على ضفتي المتوسّط بتقليص الآثار الإيجابية للمشاريع ولاتفاقات التمويل في العقود الماضية.
إن التعاون الاقتصادي يتخطّى الأثر المباشر والأمد القصير. فهو يتعلّق بالأمن والهجرة ومنظومات القيم والشراكة التي يمكنها جميعا تعزيز التنمية البشرية والإبداع والإنتاجية. ومن الضروري أن تتضمن مذكرات التعاون والاتفاقات بين أوروبا ودول شمال أفريقيا آليات رقابة للتأكد من إدارة شفافة للموارد، ومن احترام للمسؤوليات الاجتماعية على نحو يؤسس لصفحة جديدة في علاقات التعاون والتبادل والدعم في الحوض المتوسطّي.

ثالثاً: المجتمع المدني، حقوق المرأة ومراصد حقوق الإنسان

لقد تميّز "الربيع العربي" بمشاركة واسعة للنساء ولناشطي المجتمع المدني. ومن الواجب بالتالي مساعدة هؤلاء وإقامة مراصد بالتعاون معهم تنشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتراقب حسن احترامها وانطباقها على القوانين والممارسات.
ويمكن للاتحاد الأوروبي أن يقوم في هذا المجال:
   أ‌-     بدعم مؤسسات المجتمع المدني عبر التدريب وتبادل الخبرات والتجارب في مجالات "اللوبييغ" (أو الضغط) وتنظيم الحملات وبناء التحالفات للدفاع عن حقوق ومصالح محلية أو قطاعية أو مهنية أو وطنية. ويرتدي الأمر هذا أهمّية قصوى في حقبات يجري خلالها سنّ القوانين والتشريعات والتصويت على التعديلات الدستورية والتحضير للانتخابات العامة.
   ب‌- بدعم الهيئات النسائية (وسائر الهيئات المناصرة لقضايا المرأة) بهدف بلورة برامج عمل وضغط تحول دون تهميش النساء أو محاولة استثنائهن من المسارات السياسية والقانونية الجديدة. ويمكن لهذه البرامج أن تستند إلى معاهدة "إلغاء أشكال التمييز ضد المرأة" التي صادقت عليها معظم الحكومات العربية، من دون أن تحترم موجباتها أو تطبّقها فعلياً أي من هذه الحكومات، ويمكنها أيضاً أن تضع آليات متابعة واضحة لقياس التطوّر وتقييم الإنجازات دورياً.
لقد كانت العدالة والحرية والكرامة أبرز شعارات "الربيع العربي"، وينبغي ألا تُنسى النساء (كما درجت العادة) من المسارات المنبثقة عنه.
    د- بإنشاء مراصد للديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك من خلال دعم مبادرات مستقلة واتفاقات بين ممثلين عن الدولة وعن المجتمع المدني، لمراقبة مدى احترام الخطاب السياسي والممارسات والتشريعات والقوانين وأداء الإعلام وعمل القضاء والأجهزة الأمنية، ومستوى مشاركة النساء للمعايير الديمقراطية ولشرعة حقوق الإنسان. فهكذا مراصد يمكن أن تلعب أدواراً مهمة في التقييم وفي وضع الاقتراحات وتقديم الأفكار حول الإجراءات الضرورية لصيانة التحول الديمقراطي في المرحلة المقبلة.

في الختام، يفيد التذكير أننا اليوم أمام فرصة لتقديم التحوّل الديمقراطي على كل محاولات المراوحة والتباطؤ في المراحل الانتقالية. كما أننا أمام فرصة تاريخية لبناء شراكة جديدة وثقة عالية بين الاتحاد الأوروبي والدول العربية (في شمال أفريقيا تحديداً)، تطوي صفحة الصور المسبقة والشعارات التبسيطية الموجودة لدى الكثير من المواطنين والتيارات السياسية على الجانبين.
وهذا سيعبّد الطريق أمام التعاون في العديد من المجالات، وسيزيل تدريجياً مشاعر المرارة التي سادت لسنوات في معظم عواصم هذه المنطقة الحيوية من العالم، منطقة البحر المتوسط ووحداته الجيو-سياسية المتنوّعة.
زياد ماجد
يمكن تحميل النسخة الكاملة للكتاب من خلال النقر هنا.