Wednesday, April 20, 2011

الساركوزية في السياسة الشرق أوسطية: إسرائيل والأمن والأعمال

يُعدّ كتاب "ساركوزي في الشرق الأوسط"[1] الصادر عن دار سندباد ومؤسسة الدراسات الفلسطينية أواخر العام 2010 وثيقة سياسية تعرض لعلاقات فرنسا الشرق أوسطية في الحقبة الساركوزية الراهنة. والكتاب الذي سطّر مقدّمته وجمع نصوصه المؤرّخ السوري فاروق مردم بيك هو أول جهد جماعي يحلّل مواقف الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي عربياً وفلسطينياً وإسرائيلياً منذ وصوله الى الرئاسة عام 2007.


يتضمّن الكتاب، إضافة الى مقدّمة مردم بيك، ستة أوراق.
- الورقة الأولى أعدّها الباحث ألان شونال وعنوانها "ساركوزي والعالم العربي والإسلامي: لحظة نِيو محافظة و/أو أولوية للتواصل الإعلامي".
- الورقة الثانية كتبتها بياتريس باتري الرئيسة السابقة للجنة علاقات الاتحاد الأوروبي مع دول المشرق العربي بالتعاون مع المؤرخ إيمانويل إسبانيول تحت عنوان "ما نفع الاتحاد من أجل المتوسط؟"
- الورقة الثالثة أعدّتها الصحافية إيزابيل أفران وعنونتها "ساركوزي: صديق إسرائيل الحميم".
- الورقة الرابعة كتبها كل من برنار رافنيل الرئيس الفخري لجمعية "تضامن فرنسا فلسطين" وباتريس بوفريه رئيس "مرصد التسلّح" وعنوانها "تعاون استراتيجي: محور باريس – تل أبيب".
- الورقة الخامسة من تأليف دنيس سييفرت مدير تحرير مجلة "بوليتيس" الأسبوعية، وعنوانها "الساركوزية الثقافية والإعلامية".
- أما الورقة السادسة والأخيرة فهي للمؤرخ والصحافي دومينيك فيدال تحت عنوان "إسرائيل أو الميول الانتحارية".

مقدمة مردم بيك: رؤساء فرنسا بين الثابت والمتحوّل

يرصد فاروق مردم بيك في نصّه التمهيدي للكتاب (وعنوانه "على سبيل التقديم - من ديغول الى ساركوزي: إستمرارية وانقطاعات") تطوّر السياسة الفرنسية تجاه العالم العربي، وتحديداً تجاه القضية الفلسطينية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مستذكراً مواقف شارل ديغول، وبومبيدو، وجيسكار ديستان، وصولاً الى سياسات ميتران، وشيراك فساركوزي.
ويبيّن مردم بيك أن التحوّل في علاقة فرنسا الوثيقة والمتعددة المستويات بإسرائيل – من الاقتصاد والسياسة الى الدعم العسكري وتأسيس البرنامج النووي - بدأ مع ديغول عام 1967 عقب حرب "الأيام الستة"، حين اعتُبر الاحتلال للقدس الشرقية والضفة وغزة (والجولان وسيناء) لا شرعياً وجرى وقف تسليم السلاح وقطع الغيار لتل أبيب. وتطوّر الأمر مع بومبيدو الذي تمّ خلال حكمه إدراج المسألة الفلسطينية ضمن ما صار يُسمى "بالسياسة العربية لفرنسا"، ثم تكرّس التحوّل مع جيسكار ديستان الذي دفع حكمه الى تبنّي اللقاء الأوروبي في فيينا عام 1980 مواقف تتخطّى إدانة الاحتلال ومحاولات تغيير هوية القدس نحو انتقاد بعض مضامين اتفاقية كامب ديفيد والدعوة الى إشراك الفلسطينيين بالمفاوضات عبر منظمة التحرير الفلسطينية ممثلهم الوطني. ورغم ما بدا تراجعاً في بداية العهد الميتراني عن هذا المسار التحوّلي وحرصاً على اعتماد "اللا وضوح" في الموقف تجاه قضايا الشرق الأوسط، إلا أن خطاب ميتران عاد - ومن الكنيست هذه المرة – الى الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ومن ضمنها الحقّ في الدولة، ثم توّج الأمر في العام 1988 باستقبال ياسر عرفات في الإليزيه.
أما شيراك، الذي يعدّه كثر الرئيس الأقرب الى العرب وقضاياهم، فيذكّر مردم بيك بتعرّج سَيره وتناقض مواقفه قبل وصوله الى الرئاسة، حين كان وزيراً ثم رئيس حكومات في عهود بامبيدو وجيسكار ديستان وميتران إضافة الى كونه عمدة لباريس ومرشحاً رئاسياً. فبين تصريحات حادة ضد منظمة التحرير وتجنّب اللقاء بعرفات لحسابات باريسية انتخابية (حيث الفرنسيون اليهود كتلة وازنة)، وبين علاقات ملتبسة مع حكّام عرب ودعم للعراق وبرنامجه النووي وحربه على إيران، لم تتوضّح معالم الشيراكية في مقاربتها لشؤون المنطقة إلا بعد العام 1995 حين صار شيراك رئيساً وأراد التميّز خلال عهدي رئاسته في علاقات فرنسا الشرق أوسطية مستلهماً إستقلالية الديغولية عن واشنطن ودافعاً نحو تحسين العلاقات بمعظم الدول العربية ومعارضة السياسة الأميركية في العراق ودعم ياسر عرفات خلال تعرّضه للحصار بين عامي 2002 و2004. ويضاف الى ذلك، تشدّد شيراك في سياسته اللبنانية السورية دعماً لصديقه رفيق الحريري، ومصالحته واشنطن لاحقاً إنطلاقاً من الملف اللبناني وعلى أساس استصدار القرار الأممي 1559 لإنهاء هيمنة دمشق على لبنان. والتتمة معروفة لجهة اغتيال الحريري في 14 شباط 2005 وتبلور موقف فرنسي حاد تجاه النظام السوري ودعم باريسي كبير للمحكمة الدولية...

مع وصول ساركوزي الى الرئاسة الفرنسية رافعاً شعار "القطيعة"، بدا أن هدفه الأساسي القطع مع الإرث الشيراكي. وقد تجلّى الأمر في الملف اللبناني السوري، حيث انفتحت باريس على دمشق وطوّرت علاقاتها مع نظام الأسد، وأعادت التموضع على الساحة اللبنانية. لكنه تجلّى خاصة في الموقف من واشنطن وتل أبيب، وسعي ساركوزي الى التماهي مع إدارة بوش وأولوياتها، كما تأكيده على متانة الصداقة مع إسرائيل وحرصه على توثيقها أكثر بحجة "القيم المشتركة"، رغم حديثه في الوقت عينه عن الدولة الفلسطينية وضرورة إقامتها.


 ساركوزي وواشنطن وضياع السياسة الخارجية

يمكن اعتبار العلاقات الفرنسية الأميركية في العهد الساركوزي، وربطاً بها العديد من الصلات السياسية الخارجية وأدبياتها الديبلوماسية والإعلامية، أحد المحاور الثلاثة الأساسية في الكتاب. وورقة آلان شونال كما الأوراق الأخرى تلامسها، موضحة مدى تركيز ساركوزي على إحياء العلاقات الأطلسية الوطيدة على نحو دفعه خلال زيارته الولايات المتحدة في العام 2006 الى انتقاد المواقف الفرنسية المعارضة للسياسة الأميركية يومها، وتصنيفها "بالخاطئة والمغرورة".
بناء على ذلك، عمد ساركوزي في أولى سنوات حكمه الى ضبط السياسة الخارجية الفرنسية على أساس الإيقاع الأميركي، والى اتخاذ مواقف متشدّدة تشبه مواقف المحافظين الجدد في إدارة بوش الابن، والى التعامل مع معظم الملفات انطلاقاً من التكامل مع واشنطن. ولم يبق غير موضوع انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي عنصراً خلافياً هاماً بين الطرفين (يرفضه ساركوزي في حين تؤيّده أميركا).
وقد رافق التبدّل في الخيارات الخارجية لفرنسا تغيّر في الأداء المؤسساتي، جرى بواسطته تهميش وزارة الخارجية لصالح مستشاري الرئيس في قصر الأليزيه، مما أدّى في أحيان كثيرة الى ضياع ديبلوماسي ووصول تعليمات مختلفة الى السفراء وظهور وزير الخارجية هامشياً في آلية اتخاذ القرارات الحيوية...

ساركوزي والمتوسط

وإذا كانت العلاقات الفرنسية النفعية مع دول المتوسط (ومع الدول الأفريقية) ظلّت على حالها رغم التقارب مع واشنطن، فإن الجديد الذي حاول ساركوزي تقديمه في المشهد الشرق أوسطي تمثّل في مشروع تعاينه ورقة بياتريس باتري وإيمانويل إسبانيول وتقدّم نقداً له. و"المتوسطية" بعد "الأميركية" هي المحور الثاني في هذه المراجعة للكتاب. وهي بحسب ورقة باتي وإسبانيول قامت من خلال "الاتحاد المتوسطي" عام 2007 على أساس محاولة التركيز على البعد الاقتصادي للتعاون، وعلى لعب دور فرنسي ريادي في العلاقة مع دول الحوض، وعلى الالتفاف على السعي التركي لدخول الاتحاد الأوروبي، وعلى إحداث القطيعة مع الحقبة الشيراكية من خلال الانفتاح على دمشق. أما المواضيع "الشائكة"، كالصراع الفلسطيني الاسرائيلي وقضايا حقوق الإنسان في الدول العربية، فجرى تجنّبها بالكامل.
لكن الأزمة المالية عام 2008 سرعان ما خفّفت من الاندفاعة الساركوزية متوسّطياً دافعة الرئيس الى التركيز على الشؤون الداخلية. كما أن تفاقم الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتكرار جميع الخبراء القول إن القضية الفلسطينية مركزية في الحقل المتوسطي أوقف تقدّم المبادرة بعد انطلاقها الرسمي في المؤتمر الباريسي.
وتخلص الورقة الى ضرورة إعادة النظر بالمشروع وآلياته وربطه بتعريفات جديدة للاتحاد الأوروبي والعضوية فيه، وبتقليص للفجوات الجيو-سياسية كما بالحث على احترام مسارات التحول الديمقراطي في دول جنوب الحوض وتعزيز التواصل عبر الحدود في ما بين شعوبها.

ساركوزي وإسرائيل

تبقى القضية الأهم في الكتاب، وهي المحور الثالث لهذه المراجعة، وهي قضية العلاقة بين ساركوزي وإسرائيل، التي ترد في المقدّمة وفي كل الأوراق، ولو أن ورقتين تكرّسان لها عرضاً مستفيضاً.
ففي ورقة إيزابيل أفران، نقع على استذكار لعدد من خطابات ساركوزي قبل وصوله الى منصب الرئاسة: في العام 2004 في هرتزليا حيث ذكّر بصداقته لإسرائيل وإعجابه بشجاعة الشعب الإسرائيلي في مقاومته يومياً "تحدّيات الإرهاب"، وفي العام 2006 في الولايات المتحدة حين أعلن "القطيعة" مع الإرث الشيراكي، وفي العام 2008 خلال استقباله شيمون بيريس في باريس في العيد الستين للدولة العبرية واعداً إياه بالوقوف الدائم الى جانب دولته، وتكراراً في العام 2008 من الكنيست الإسرائيلي حيث فاجأ ساركوزي (رئيس الدولة العلمانية) مستضيفيه بقراءة جمل من العهد القديم "حول الوعد الإلهي لليهود بأرض إسرائيل"، وبمعاهدتهم بوقوف فرنسا الى جانبهم في مواجهة التهديدات، قبل أن يُذكّرهم – من موقع الصديق - بضرورة الوصول الى سلام مع الفلسطينيين يتيح قيام دولة فلسطينية وإيجاد حلول لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين تحترم "هوية إسرائيل".
ترجمة كل ذلك: تعاون إقتصادي رفيع، إستنكارات لفظية فقط لحرب غزة عام 2009 وللهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية عام 2010، تبادل خبرات متواصل بين الوزارات والإدارات الفرنسية والاسرائيلية، ونجاح فرنسي في ضم إسرائيل الى "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" التي ستتيح لها بحسب وزارة الخزينة في تل أبيب جذب استثمارات أجنبية سنوية بقيمة 4 الى 5 مليارات دولارات...


وتفصّل ورقة برنار رافنيل وباتريس بوفريه كل مجالات التعاون التي تعدّها دليلاً على محور استراتيجي صار يربط العاصمتين الفرنسية والإسرائيلية، من موضوع التسلّح والتعاون العسكري، الى موضوع التنسيق الأمني والمخابراتي، الى التقارب المشترك مع حلف الناتو، وصولاً الى التحالف في وجه إيران. وتعتبر الورقة أن كل هذا بدأ يقود الى ما يشبه السيناريو الايطالي الاسرائيلي الذي قام على وثيقة وقّعها وزير داخلية حكومة برلوسكوني وتقضي بالاستفادة من خبرات إسرائيل في قمع أعمال العنف والشغب، ومن التشارك في محاربة الإرهاب، الذي يستطيع أن يورّط إيطاليا في حروب مع كل من تصنّفه إسرائيل إرهابياً.

تبقى في هذا الباب ورقة دومينيك فيدال التي تعرض لممارسات تل أبيب ولبعض المستجدّ في العلاقات الدولية في ما خصّها. وهي تبدو من خارج سياق الكتاب بما هو عرض للساركوزية تجاه الشرق الأوسط، في حين أنها تحليل لنزعات التطرّف والغرور الإسرائيلية التي يعدّها الكاتب "انتحارية" (إذ تغيّر من النظرة الدولية والأميركية الى الدور الإسرائيلي الذي صار يبدو تهديداً للسلم العالمي وللمصالح الأميركية في الشرق الأوسط). إلا أنها تعود في خاتمتها الى مقاربة الانحياز الساركوزي الى تل أبيب وقطيعته مع تراث السياسة الخارجية الفرنسية منذ ديغول، فتعيد الصلة ب"جسم" الكتاب وبعنوانه.

خلاصة

يمكن ذكر قضايا عديدة أخرى أتى الكتاب على تناولها، لا سيّما تلك المرتبطة بالخطاب "الثقافوي" للساركوزية، المعبَّر عنه إعلامياً وسياسياً من خلال فتح نقاشات عامة في فرنسا حول مسائل مرتبطة بالمهاجرين وبالإسلام وبشؤون أخرى تشي بنظرة الى العالم و"القيم" قائمة على ثنائيات تبسيطية. ويمكن كذلك التوقف عند ما عزّزته الساركوزية داخلياً في فرنسا من صعود للتطرّف اليميني، صار يظهر جلياً اليوم (بعد أشهر من صدور الكتاب)، بحيث تحصل "الجبهة الوطنية" وفق استطلاعات الرأي على تأييد حوالي ال20 في المئة من الفرنسيين. ويمكن أيضاً إجراء مقارنة بين الأداء الساركوزي وأداء عدد من "المفكّرين" الفرنسيين الكثيفي الحضور إعلامياً كبرنار هنري ليفي وفنكلكروت وغلاكسمان وبروكنر على ما يشرح دنيس سييفرت في ورقته. وهي جميعها قضايا مفيدة، لكنها تبدو (كما استعراض علاقات ساركوزي ببعض الصحافيين) أكثر ارتباطاً بالقارئ الفرنسي العارف بتكوين المشهد الإعلامي – الثقافي الفرنسي وتفاصيله من ارتباطها بسائر القرّاء ولو أنها تفيد لفهم الأطر العلائقية والقيمية للساركوزية.

في أي حال، واستطراداً بعد عرض الكتاب، يمكن أن نقول إن الشهرين الأخيرين وما حملاه من تحوّلات تاريخية كبرى في العالم العربي، بدءاً من تونس ومصر، واستمراراً في عدد من الدول الأخرى – ولو بنجاح أقل – يتطلّبان قراءة للنظرة الفرنسية الى "الربيع العربي" وتعاملها معه، ويتطلّبان كذلك – تقييماً لما جرى من تبديل في وزارة الخارجية. ولعل توصيف شونال في الورقة الأولى في الكتاب لضبابية الصورة بين مؤسسات الخارجية والإليزيه وهيمنة الرئيس ومستشاريه على القرارات الكبرى، ظهرت نتائجها مع التخبط في المواقف الرسمية الفرنسية تجاه الثورة التونسية، ثم المصرية. ورغم تنحية الوزيرة أليو ماري (التي حلّت لفترة وجيزة مكان برنار كوشنير) وتعيين آلان جوبيه صاحب الكفاءة والخبرة الواسعة وزيراً جديداً وفق شروطه (وأبرزها نقل مستشار الرئيس الذي يُعتبر صاحب التأثير الأعلى كلود غيان الى وزارة الداخلية للتحرّر من عبء الإليزيه)، فإن تفرّد ساركوزي في القرارات وهو الطامح بعد عام لتجديد ولايته يبقى مرجّحاً. وإن كان حجم الأحداث عربياً سيفرض عليه تعديلات في أولوياته، إلا أنه لا يبدو جاهزاً بعد لتغيير جدّي في أدائه وفي نظرته التسطيحية للعلاقات الدولية ولقضايا الحوض المتوسّطي المركّبة والمعقّدة.
زياد ماجد
قراءة خاصة لمجلة الدراسات الفلسطينية - العدد 86، ربيع 2011


[1] Sarkozy au Proche Orient, textes réunis et présentés par Farouk Mardam Bey, Editions Palestiniennes, Institut d’Etudes Palestiniennes et Sindbad, Novembre 2010, 175 pages.