Tuesday, April 27, 2010

جعجع والقوّات

تبدو الأبعاد السياسية للهجوم على القوات اللبنانية وسمير جعجع بديهية في الظروف الداخلية المستجدّة التالية للمصالحات العربية والدولية مع دمشق. فالمطلوب في ظل هكذا متغيّرات محاصرة كل طرف لا يجد لنفسه مكاناً فيها أو يرفضها، وتهميشه كي يصبح أداؤه أقرب الى الشغب منه الى التأثير أو حتى محاولة التأثير.
بهذا المعنى، لا صعوبة في فهم النية من مهاجمة القوات دورياً وجعل المجاهر بالحلف معها معنياً بتبرير حلفه، وكأنه موبقة. كما لا صعوبة في فهم الهدف من جعل قسم من المسيحيين يبدون في بلد التوافقات الطائفية مفصولين عن باقي اللبنانيين غير قادرين على التواصل معهم، واتّهامهم بالتالي بالانعزال والتطرّف و"الكنتنة" وغيرها من تصنيفات مألوفة في مسلسل الهجائيات اللبنانية، بهدف إبعادهم عن كل سياق سياسي..

غير أن مسائل أخرى ترتبط بالهجوم المذكور، ويجري تغييبها أو تجنّب فهمها في سياق التعاطي معه.
من هذه المسائل مثلاً، أن استسهال استهداف جعجع مرتبط بكونه سجيناً سابقاً، أي شخصاً فقد مرّة حصانة تتيحها عادة الزعامة الطائفية والسياسية، وصار بالتالي زعيم الحرب الوحيد الذي حوكم وجرى حلّ التنظيم الذي قاده ووُضع 11 عاماً في الحبس من دون أن ينقذه أحد. وفي هذا ما جعله، رغم التظلّم وربط الأمر بالوصاية السورية، أكثر عرضة من غيره للتهديد وللتذكير بما سبق وأصابه.
ومن هذه المسائل أيضاً أن جعجع طرفيُّ النشأة والقيادة. فهو أتى من بشرّي في الشمال وليس من جبل لبنان أو بيروت وعائلاتهما السياسية التقليدية، وأنه بهذا المعنى ريفيّ لا ينتمي الى البرجوازية المسيحية المعهودة أدوار بعض وجوهها سياسياً، وهو لذلك أسهل استهدافاً من غيره نتيجة موقعه في السلّم الاجتماعي-السياسي المهيمن.
ومن المسائل عينها أنه قاد بنفسه ميليشياته، أي أنه كان مقاتلاً وقاتلاً ومقتولاً، على خلاف غيره من قادة ميليشيات الحرب الذين وضعوا مسافة بين أوامر القتال والقتل الصادرة من مكاتب وربطات عنق وبين التنفيذ وحمل البندقية ولمس الدم. وهذا سمح لكيل الاتهامات له أن يصير عادةً أو موضةً سهلة.


ولعل حرب الإلغاء التي خاضها ضده الجيش اللبناني بأمرة ميشال عون (القادم مثله من خارج الزعامات العائلية، والمختلف جذرياً عنه من حيث الصورة الرمزية التي أمّنتها له قيادة أبرز مؤسسات الدولة اللبنانية وأكثرها تعاضداً وذاكرةً) جعلت منه أشدّ التصاقاً في أذهان كثر من اللبنانيين، والمسيحيين منهم بخاصة، بصورة "الخارج على القانون" الذي يصطدم بالجيش، صمّام أمان الدولة ورمز سيادتها الأمنية.




كل ما ذُكِر إذن، مضافاً الى الأسباب السياسية، يفسّر يُسر الهجوم على جعجع والقوات. وكان يمكن اعتباره محدود التأثير على قسم كبير من اللبنانيين ممّن تسيّسوا على وقع الفرز بين 14 و8 آذار، وعلى أساس الموقف من النظام السوري ومن سلاح حزب الله ومن الاغتيالات والمحكمة الدولية وليس من أي أمر آخر، لولا أن بعض الردود عليه تشي بانفعالية تنفّر جزءاً من هؤلاء، ولا تفيد أصحابها

فبين من يتصدّى بدفاع مطلق (يشبه التشنيع المطلق) بتسطيحيّته وتصنيفاته السهلة، وبين من يستذكر الحرب الأهلية بوصفها مرجعية تحكيم لصالح الحكيم والقوات ناسياً أن أبرز إنجازات 14 آذار كان إحداث شكل من أشكال المصالحة في الشارع، جَمَعَ بعض من تقاتلوا في الحرب بأناس لم يُعجَبوا مرة بفصول تلك الحرب ولا بدور القوات وسائر الميليشيات فيها، وبين من يعتبر الانتفاضة الاستقلالية في ساحة الشهداء عام 2005 استمراراً لمواقف الجبهة اللبنانية، وفي ذلك استعادة كريهة لمنطلقات فرز سياسي وطائفي تصيب حتى الجمهور المستمر في تمسّكه بما تبقّى من 14 آذار، بين هؤلاء جميعاً تضيع البوصلة السياسية، ويُستفزّ كثر من معارضي التسويات والتقلّبات الأخيرة، ويجري أحياناً إسداء خدمة الى مطلقي الحملة على القوات وجعجع. هذا في وقت يتيح خطاب الأخير في افتتاح المؤتمر التنظيمي للقوات، كما قوله إن "سمير جعجع الحرب مات في السجن" الردّ على الكثير من الاتهامات التي غالباً ما يسوقها ضدّه من لا حصانة معنوية لهم ليحاكموا أحداً!

... العبرة من كل ذلك، أن بلداً تنقص أبناؤه أكثر أنواع الإجماعات التأسيسية، وبلداً يختلف أهله حول كونه وطناً أو ساحة، وبلداً يعتمد أكثر أطرافه الكيل بمكيالين في نظرتهم الى الماضي والحاضر مدّعين على الدوام الحق المطلق، وبلداً يستأنس بعض من فيه للتخوين والتهديد، يصعب استقراره. فكيف الحال وهو في منطقة محكومة بالاستبداد من ناحية، وبالاحتلال من ناحية ثانية؟
زياد ماجد