Wednesday, March 18, 2009

في ذهنية التهديد

يعبّر العلني كما المسرّب من تصريحات الرئيس السوري الأخيرة، حول الانتخابات النيابية اللبنانية وحول المحكمة الدولية و"مفاوضات السلام" في المنطقة، عن مفارقات ثلاث في السياسة وفي الثقافة السياسية يفيد التوقّف عندها.
المفارقة الأولى ناجمة عن موقف لا يكتفي بإبداء اهتمام في انتخابات دولة مجاورة وما قد ينجم عنها من تداعيات سياسية تمسّ العلاقة بين الدولتين كما يمكن لأي رئيس أو مسؤول أن يفعل، بل يذهب في تدخّل - بعيد عن الأصول الديبلوماسية - الى حدّ تحديد ما ينبغي أن تكون عليه مؤدّيات الانتخابات من استمرار لفلسفة "الثلث المعطل" التي أتى بها اتفاق الدوحة، ملوّحاً بالفوضى بديلاً وحيداً عن ذلك. ويعلن أن من سيتصرّف بعد هذه الانتخابات بعقلية "أنه رابح" سيجرّ البلد نحو الانفجار، محذّراً بالتالي الأطراف اللبنانية التي قد تحاول الحكم بناء على تفويض أكثرية المواطنين الناخبين، بأنها ستتسبّب لبلادها بكوارث... 
المفارقة الثانية تتأتّى من حديث الأسد عن المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه. ففي هذا الحديث، يمارس الرئيس السوري التهديد من دون أي تمويه. ذلك أن "تسييس المحكمة"، على ما يقول، يعني خراب لبنان. أمّا ما هو التسييس، وكيف سيحلّ الخراب بلبنان، فللقارئ النبيه أن يفهم. ذلك أن لا استيضاحاً طُلب من الأسد، ولا تفاصيل تبرّع هو بتقديمها. لكن المُتابع للسجالات حول المحكمة يُدرك أن المقصود من قوله المذكور هو: "إن اتّهمت المحكمة النظام السوري بالوقوف وراء الجريمة، فسنجعل لبنان يدفع الثمن غالياً"...

 أما المفارقة الثالثة، فهي أقرب في دلالاتها الى تظهير العقلية التي يعتمدها النظام السوري في "الصراع" مع إسرائيل وفي "التعامل" مع دول المنطقة. فهو يعتبر أنه قادر على "جلب" حزب الله وحماس الى طاولة المفاوضات، تماماً كما هو قادر على الزج بهما في المواجهة أو "الممانعة"، بمعزل عن الدول والمجتمعات. هكذا، يقرّر مثلاً تجاهل أن ثمة دولة في لبنان وأن ثمة سلطة وطنية في فلسطين، فيدعو حزبين من كلا البلدين مشاركته مفاوضات إقليمية للوصول الى حلول واتفاقات، مكرّساً اعتماده لبنان وفلسطين ساحتين يتحالف فيهما مع تشكيلين أهليّين (مسلّحين) ويوظّف قتالهما وأداءهما (لا بل يديره) لتحسين شروط تفاوضه لاحقاً مع إسرائيل و"رفع سعره" بوصفه قادراً على التصرف بهما وبملفات دولتيهما، وبالنيابة عن سلطتين شرعيتين لا يعيرهما كثير أهمية...
 تشير هذه المفارقات الثلاث الى ذهنية سياسية سورية في العلاقات الخارجية قوامها التدخّل والتهديد وتخطّي الدول ومؤسساتها الشرعية ومصادرة خياراتها. وهي ذهنية إن عُطفت على القمع الداخلي، تعطي صورة عن الثقافة التي تدير سياسة الاستبداد: غرور ومطامع وشعارات مزايدة تجاه الخارج، وتسلّط وسجن ونفي تجاه الداخل.
فهل نبالغ إن كرّرنا من لبنان إن استقلالنا واستقرارنا على المدى البعيد مرتبطين بديمقراطية سوريا وحرية أبنائها؟ 
زياد ماجد

Monday, March 16, 2009

حدود التسامح

لا يمكن لرصانة في السياسة أن تعتبر القضية الطائفية في لبنان مسألة يمكن تجاوزها بقانون أو بشعار والتعاطي معها بشتم أو بهجاء. فالطائفية مسار معقّد وحالة يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي بالثقافي بالاقتصادي بالخدماتي، على نحو يعيد إنتاج تجلّياتها في المؤسسات وفي الوعي العام وفي حالات الاصطفاف إثر الخلافات السياسية على القضايا الداخلية والخارجية وعلى التأثير فيها والتموضع تجاهها.
على أن الطائفية هي أيضاً سبب لتشكيل ولاءات في السياسة ووعي في الاجتماع تحيل كل مسألة مطروحة في لبنان الى مصالح تخال الجماعات نفسها معنيّة في التعامل معها إنطلاقاً من هويات تعبر المناطق والطبقات، وتنسج أوهاماً وحقائق يبدو معها الانتماء أو القيد الأولي الثابت الوحيد، وكل ما عداه متغيّر.
وإذا ما أضيفت الى ذلك قوانين وتشريعات، أو أعراف وممارسات، تكرّس الربط بين الطائفة والسلوك السياسي والإداري والخدماتي والشخصي، وتجعل التمثيل في لحظات الأزمات احتكاراً (عبر نظام انتخابي يقوم على المبدأ الأكثري البسيط) لجهة وحيدة ضمن كل طائفة تلغي التمايزات وتدّعي الدفاع عن مكانة الطائفة بوصفها جسماً تتماهى مكوّناته وتفوّضها النطق باسمها والتفاوض على "حقوقها"، وقعنا إثر كل مشادة على تصاعد حاد في الخطاب والتحريض والتعبئة الطائفية، وصرنا أمام مجموعات من الناس على أهبّة الاستعداد للانقضاض على بعضها ولإنشاء حدود داخل المدن والبلدات بين المناطق والأحياء حيث تقطن الأكثريات المتواجهة أو تمارس سيطرتها وتعبيرها عن طقوس ولاءاتها.


 وقد عرفنا في لبنان لحظات درامية عديدة في تعرّج المسارات الطائفية وفي تبدّل التحالفات وتغيّر الأحجام والتوازنات، وخضنا حرباً ضروساً ما زالت آثارها الى اليوم قائمة. وهي جميعها قد بيّنت لنا:
- قدرة الطائفية على استيعاب الحيويات المختلفة وتفكيكها وتطبيعها مع عصبيات مذهبية في اللحظات المفصلية.
- قدرة النظام الطائفي على كفالة بعض الحريات وحماية التنوّع السياسي من خلال توازنات الرعب التي يقيمها بين المجموعات الطائفية المختلفة في حالات الاستقرار، وعجزه عن إيجاد الحلول أو حتى إدارة الأزمات كل ما وقع انقسام داخلي على الخيارات الإقليمية للبلاد، أو حتى على الأحجام في المؤسسات، دون صدامات أو وساطات وتدخّلات خارجية.
- عجز النخب العلمانية عن تحويل خطابها وثقافتها الى تيارات شعبية قادرة على الضغط من أجل تعديل في القوانين والممارسات يقلّص مساحة الطائفية في الحياة العامة، لسببين: أوّلهما أن قضايا الفرز السياسي في البلاد، التي أثمرت انقسامات طائفية، قسّمت العلمانيين أيضاً ودفعتهم الى التواجه والتمركز داخل معسكرات متقاتلة. وثانيهما، أن العلمنة في ذاتها، لا يمكن أن تكون هدفاً مفصولاً ومستقلاً عن السياقات السياسية المصيرية التي يمرّ فيها لبنان.
 وعلى هذا الأساس، يمكن القول اليوم، إن رفع شعار العلمنة وحده بحجة انتماء يساري أو تقدّمي لا يقدّم الكثير في المعركة السياسية الدائرة، حيث الاستقلال والاستقرار وبناء الدولة (أي دولة) هي العناوين "المركزية". وتأتي العلمنة، كما العدالة الاجتماعية، لترفدها بأفق يساري، وبما يمكن أن يحصّن الدولة والمجتمع لاحقاً، أي بعد استتباب الأمور، من مخاطر الانزلاق المتجدّد (وربما الحتمي) الى الانفجار أو التنافر.
 هل يعني هذا حياداً تجاه المؤسسات الدينية والخطابات الطائفية والممارسات المذهبية هنا أو هناك بحجة المعركة الكبرى؟
أبداً. فالمعركة الاستقلالية التي يخوضها جزء كبير من اللبنانيين، تتطلّب توسيع التحالفات قدر الإمكان للفوز بها، لكنها تتطلّب أيضاً تأكيداً على ثوابت مواطنية، لا علوّ كعب عليها، ولا فتوى شرعية أو حرماً كنسياً أو عنصرية مذهبية تظلّلها.
والمساومة المطلوبة لحماية الأولوية الوطنية لا تعني طغيان صوت المعركة وحده على ما عداه، وللمرونة في المواقف حدود يُدافع عنها فور اختراقها على نحو يهدّدها في وجودها... ذلك أن السماح بتسلّل قوانين "إلهية" الى المعركة الاستقلالية نفسها قد لا يُلغي مع الوقت "وضعيّة" قوانينها وتحالفاتها فحسب، بل هو قد ينسف المعركة بأسرها...
زياد ماجد

Tuesday, March 10, 2009

منطق عجيب

تثير مذكّرة المحكمة الجنائية الدولية، القاضية باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، ردود فعل عربيّة مختلفة، يتقاطع أكثرها على إدانة المذكّرة والتنديد بمصدّريها والتشكيك بخلفيّاتها
ولعل التوقّف عند بعض ردود الفعل هذه ومساءلة منطقها يفيد لتسليط الضوء على التخبّط السياسي والقيمي الذي نعيشه في منطقتنا، والذي يضع أكثر الأنظمة كما العديد من القوى المعارضة لها في مركب واحد، وقودُه شتمٌ "للتدخّل الخارجي ولمشاريع الهيمنة المتلطّية بقوانين أو بقرارات أممية".
فإن أحلنا المنطق الذي تتعالى بموجبه بياناتُ الشجب والاستنكار الى قوام سياسي و"قانوني"، وقعنا على دعائم - مقولات ثلاث تكرّر التالي:
أولاً، أن المذكّرة تخفي المصالح الفعلية المحرّكة لها، والمتمثّلة بتقسيم السودان لضرب شعبه ونهب ثرواته النفطية والمعدنية والذهبية والمائية. وهي، بهذا المعنى، استهداف لوحدة البلاد وسيادتها وليس لشخص البشير أو لنظامه.
ثانياً، أن المذكّرة تجسّد ازدواجية المعايير المعتمَدة في العالم بحيث لا تنظر المحاكم سوى في جرائم وحالات بعينها، فيما تغضّ الطرف عن مجازر وأهوال في حالات أخرى لأسباب سياسية، أميركية تحديداً.
ثالثاً وربطاً بذلك، لم تتحرّك المحكمة الجنائية تجاه الهمجية الإسرائيلية وانتهاكاتها اتفاقيات جنيف في غزة منذ أسابيع، في حين أنها تقيم الدنيا ولا تقعدها اليوم في "عدوان سافر على السودان وأهله".
لنحاول معاينة كل مقولة من المقولات الثلاث وتفكيكها، ولو بشديد اختصار.

أولاً، ليس مفهوماً كيف أن مذكّرة جلب بحق شخص، ولو كان رئيساً، هي أشدّ خطراً في استهدافها بلداً من قتل وتشريد مئات الألوف من أبنائه وتدمير نسيجهم الاجتماعي وتهجيرهم من منطقة الى أخرى في حروب قبلية لم تحرّك السلطات ساكناً تجاهها، أو هي حرّضت على الاستمرار بها أو تواطأت ضد بعض أطرافها. وليس واضحاً كذلك كيف أن التحقيق مع رئيس ثم إدانته (أو تبرئته) قد يفضيان نهباً للثروات يفوق تبديد هذه الثروات إنفاقاً على حروب متواصلة منذ عقود حصدت حتى الآن في الجنوب والغرب، وفي الوسط وانقلاباته، أكثر من مليوني إنسان وجعلت البؤس والفقر واقع حال ملايين غيرهم.
ثانياً، لا شك أن في العالم ازدواجية معايير، ولا شك أن من تُعينه دول عظمى، غالباً ما قد ينجو من عقوبات أو من زجر أو من إجراءات. والازدواجية في المعايير هذه، المرفوضة والظالمة، ليست وقفاً على الولايات المتحدة ولا هي معتمدة تجاهها حصراً. فروسيا والصين لا تقلاّن ضراوة في الحروب والاحتلالات (من الشيشان الى جورجيا فالتيبت) من "زميلتهما" في مجلس الأمن، وحصانتهما (كما قدرتهما على استخدام الفيتو حمايةً لحلفائهما) ليست أقل من تلك المتمتّعة بها واشنطن. على أن الأهم من ذلك، وبمعزل عنه، هو أن وجود ازدواجية معايير لا يمنح أحداً الحق في ارتكاب المجازر أو السماح بوقوعها، ثم القول رداً على مريدي الحساب أن ثمة ما يوازيها هولاً في أماكن أخرى! ففي ذلك رداءة حجة يصبح بحسبها المتّهَم بالتسبّب في مجازر أو المشارك فيها بريئاً ليس لأن أدلّة قد تثبت تهافت اتّهامه، بل لأن مجرمين غيره موجودون في مكان ما من العالم لم يُحاكموا بعد!
ثالثاً، إن كان التواطؤ مع إسرائيل وممارساتها في الكثير من الدوائر السياسية في العالم وانعكاس ذلك على الدوائر الحقوقية مقزّزاً، فإن استمرار تبرير الاستبداد أو القتل أو الاغتيال في الدول العربية تجاه مواطنين عرب أو غير عرب من أبنائها وسكّانها بحجة "حصانة" الجرائم الإسرائيلية صار أكثر تقزيزاً. فالجريمة جريمة ورفض ازدواجية المعايير يبدأ بعدم اعتمادها، إلاّ إن كان البعض يعتبر أن الردّ على وحشية الاحتلال في فلسطين يكون مثلاً بإبادة أبناء منطقة في السودان، أو اغتيال أساتذة جامعيين وصحفيين في العراق، أو اعتقال مثقّفين وتصفية معارضين في سوريا!
إن "النموذج السوداني" الذي نراه اليوم هو أحد تجلّيات الإفلاس الفكري والأخلاقي عندنا. والتصدّي لهذا النموذج شرط ضروري لاستقامة النقاش في غيره من النماذج.
ولعلّنا في لبنان ندرك أهمية ذلك، وندرك معنى الاحتفال بالأول من آذار والتمسّك بالمسار الذي انطلق بعده، من دون أوهام ومن دون كلل أو سأم…
زياد ماجد

Sunday, March 8, 2009

التيارات الرئيسية في الحركة النسوية - نادية عيساوي


يثير ذكر حركة التحرّر النسائية أو الحركة النسوية (Mouvement Féministe) ردود فعل سلبية عند أكثر الرجال والنساء تجاه ما قد يعدّونه مبالغة أوتطرفاً في تفكيرٍ وسلوكٍ نسويَّين يشبهان إعلان الحرب على الرجال وعلى المجتمع ومؤسساته.

ولا يمكن النظر الى ردود الفعل هذه دون الإشارة الى أنها  تعبّر عن خوف عميق من إمكانية زعزعة دعائم النظام البطركي (الأبوي) الذي جرى بناؤه منذ آلاف السنين: نظام هيمنة ذكورية ظلّ متماسكاً رغم كل الثورات والتطوّرات التكنولوجية التي حصلت على مرّ القرون الماضية. فالتراتبية الناظمة للعلاقات  بين الجنسين تحوّلت الى قناعات راسخة عند النساء والرجال الى حدٍّ صارت تبدو فيه السيطرة الذكورية طبيعية وبديهية.
ويؤكد الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي بيار بورديو، في هذا المجال، أن هذه السيطرة مغروسة في اللاوعي الجمعي عند البشر وأنها تحوّلت الى عنصر غير مرأي وغير محسوس في العلاقات ما بين الرجال والنساء. وينبغي بالتالي إخراج هذا اللاوعي، وتحويله الى وعي يعيد كتابة التاريخ.

هذا العمل هو بالضبط ما يسعى إلى تحقيقه النسويون والنسويات من خلال جهدهم الفكري وتحالفهم مع الحركات الاجتماعية الباحثة عن التغيير والحاملة مشاريع بديلة للسائد.
وبهذا المعنى، تُعتبر الحركة النسوية حركة تغييرية تهدف الى تحطيم البداهات الخاطئة ووضع المرأة في موقع "الفاعل" في المجتمع. ومن هنا التعاطي مع صعودها على أنه تهديد لأسس التنظيم الاجتماعي القائمة. 


ولكن، ما هي "النسوية" التي نتحدّث عنها اليوم؟

في ما يلي تعريفان أوّليان للمصطلح المعرّف بها. يقول القاموس: "النسوية هي منظومة فكرية، أو مسلكية مدافعة عن مصالح النساء، وداعية الى توسيع حقوقهن" (Hachette, 1993). أما لويز توبان، النسوية الكندية، التي سنعتمد لاحقاً تصنيفها للتيارات النسوية، فتذهب أبعد من التعريف القاموسي لتقول "إن النسوية هي انتزاع وعي (فردي بداية ثم جمعي)، مَتبوعٍ بثورة ضد موازين القوى الجنسية والتهميش الكامل للنساء".
نذكر هذا، لنؤكد في نفس الوقت إنه لا يوجد نسوية واحدة، بل نسويّات تندرج ضمن مدارس عديدة وتتغذّى من المعطيات الثقافية والاجتماعية المختلفة، وتحاول كل منها الإضاءة على الأسباب التي أدّت الى تهميش المرأة واستضعافها، وبلورة إستراتيجيات لمواجهتها.

يستفيد الفكر النسوي من تراكم تاريخي ومن توليفات نظرية وتحليلات اغتنت الواحدة من الأخرى ونضجت في القرنين الأخيرين. ولعل النسويين والنسويّات الأنغلو-ساكسونيين كانوا السباقين الى بلورة قضايا نظرية وتحويلها الى نضال سياسي.

ويمكن القول إن الحركات النسوية تمحورت لغاية سبعينيات القرن الماضي حول ثلاثة تيارات رئيسية: النسوية الإصلاحية الليبرالية، والنسوية الماركسية، والنسوية الراديكالية. 

1- النسوية الإصلاحية الليبرالية: ينتسب هذا التيار الى خط الثورة الفرنسية وامتداداته الفكرية، ويستند الى مبادئ المساواة والحرية للمطالبة بحقوق للمرأة مساوية لحقوق الرجل في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية. ويتميّز هذا التيار بقناعته بقدرة النظام الرأسمالي الدائمة على التطوّر والتكيّف مع المتغيرات. ويعمل المنتمين والمنتميات إليه من أجل أن يوفّر النظام نفسَ الفرص والحقوق للنساء والرجال، من خلال التركيز على التربية وتغيير القوانين المميّزة بين الجنسين وتكوين لوبيات الضغط وتغيير الذهنيات على المدى البعيد.

2- النسوية الماركسية: على النقيض من توجّه التيار الأول، يعتبر نسويو ونسويّات هذا التيار أن قمع المرأة وقهرها بدآ مع ظهور الملكية الخاصة. فنقل الملكية بالإرث سبّب مأسسةً للعلاقات غير المتوازنة وتوزيعاً للمهام والأعمال على أساسٍ من التمييز الجنسي. وقد شيّدت الرأسمالية نظاماً للعمل يميّز ما بين المجالين الخاص والعام: فللرجل العمل المنتج والمدفوع، وللمرأة الأعمال المنزلية المجانية غير المصنّفة ضمن الإنتاج. واستندوا الى مقولة إنجلز المعتبرة أن "قيام الرأسمالية والملكية الخاصة هو أكبر هزيمة للجنس النسائي".
يرى أتباع هذا التيار أن إعادة انخراط النساء في سوق العمل ومشاركتهن في الصراع الطبقي سيؤدي الى قلب النظام الرأسمالي وإزالة الطبقات.
لكن اقتصار تحليلهم على البعد الطبقي بدا غير كافٍ لشرح أسباب التهميش والتمييز ضد المرأة. كما أن إصرارهم على عدم اعتبار النضال النسوي قائماً بذاته بحجة عدم تشتيت القوى خارج ميدان الصراع الطبقي، أدّى الى ظهور أدبيات نسوية ماركسية تتخطّى إطار تفكيرهم الكلاسيكي وتضيف الى التحليل الطبقي تحليلاً مرتبطاً بالتمييز الجنسي، والى الرأسمالية مفهوم البطركية (أو الأبوية).
ومع سقوط جدار برلين وانهيار التجربة السوفياتية، تبلور ضمن التيار النسوي الماركسي هذا مذهبان رئيسيّان: الأول، مذهب "النسوية الشعبية" والثاني مذهب "الأجر مقابل العمل المنزلي".
"النسوية الشعبية" تكافح لكي يترافق النضال من إجل المساواة بين الجنسين مع النضال ضد الفقر والتهميش والعنصرية.
ونسوية "الأجر مقابل العمل المنزلي" تعمل لتبيان حجم القطاع غير المرأي وغير المحسوب في الإقتصاد، منطلقة من أن العمل المنزلي وعمل الولادة أو "إنتاج البشر" هو مكان استغلال النساء لكونه مجانيّاً ضمن منظومة السوق الإقتصادية (التي يديرها الرجال المتحكّمين). وبالتالي، يشكّل المنزل والحيّ النصف الثاني أو المكمّل من التنظيم الرأسمالي الذي يخدم النصف الأول، أي السوق.

3- النسوية الراديكالية: هدَفَ هذا التيار الى التعويض عن بعض النواقص في النسوية الليبرالية والماركسية من خلال التأكيد على الطابع العام والعابر للمناطق والثقافات، المستقلّ عن الطبقات، للتمييز ضد النساء. ويعتبر أنصاره أن البطركية بحد ذاتها هي أساس هذا التمييز ضد النساء والسيطرة عليهن التي تنسحب على ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجنسية، وتخلق نظام تنميط للجنسين من خلال ثقافتين: واحدة ذكورية مسيطِرة وأخرى نسائية مسيطَر عليها. 
ومن بين استراتيجيات هذا التيار الهادفة الى تغيير المعادلة الراسية، استعادة النساء لأجسامهن وكيانهن وإعادة الاعتبار الى ثقافة خاصة بهنّ (ذهبت في بعض الحالات الى حدّ الانفصال عن الرجال والعيش في مجتمعات نسائية مستقلة).
وانطلاقاً من عمل هذا التيار، وُلدت مذاهب فكرية ونقدية أضاف كلّ منها مساهمته الى تحليل الواقع وفهم الحالة النسوية. وتأسّس مذهب متمحور حول عالمة النفس لوس إيريغاراي التي طوّرت التفكير في مفهوم الاختلاف، وخلقت نقاشات حول الطابع البيولوجي والاجتماعي لهذا الاختلاف. واستعاد هذا المذهب قول المفكّرة والنسوية الفرنسية سيمون دو بوفوار"لا نُخلق نساء، بل نصير نساء" جاعلاً منه أبرز شعاراته.

نضال المثليات والسوداوات والبيئيات 
في السبعينيات، نما  تياران جديدان وراحا يوسعان حقول التفكير والنشاط النسويين.
فظهر تيار النسويّات المثليّات الذي اخترق جميع التيارات والمذاهب النسوية منظّراً لكون منطلق التمييز يكمن في العلاقات بين الجنسين، ومحاربته تتمّ بالتالي من خلال الانسحاب من هذه العلاقات نحو علاقات إنسانية جديدة مثلية تتساوى أطرافها جميعاً...
أما التيار الثاني الذي ظهر، والذي أغنى الحركة النسوية الى أبعد الحدود، فكان "حركة النسويات السوداوات" (Black Feminists)، الذي صبّ لصالح المدرسة النسوية الراديكالية. والجِدّة في هذا التيار نشوؤه في أوساط المناضلين والمناضلات السود، مما أضاف البعد العنصري الى معادلة الجنسي والطبقي، ووضع التشابهات بين آليات التمييز العنصري وآليات التمييز الجنسي تحت المجهر. فبالنسبة الى النسويات السوداوت، وصل التمييز الجنسي الى ذروته مع بدء دخول النساء الحيز العام ومشاركتهنّ الرجل في العمل. فقد انتقلن عندها من نظام سيطرة ذكورية واستغلال تقليدي الى كائنات لها نظرياً حقوقها ومسؤولياتها المدنية، تنافس الرجال وتولّد عندهم العدائية والتمييز الجنسي العنيف، على نحو يشبه تماماً التمييز العنصري الذي تعرّض له السود بُعيد تحرّرهم القانوني من العبودية.

وفي الثمانينيات، ومع تصاعد الكوارث البيئية، انخرط النسويون والنسويات في العمل والتنظير البيئي. وتصدّرت النسوية الهندية فاندانا شيفا تياراً نسوياً بيئياً ارتفعت شعبيته في دول العالم الثالث، ومفاد مقولته ان المرأة (المشبّهة بالطبيعة في معظم المعتقدات والخرافات الدينية) تتعرّض لنفس أنماط الاستغلال التي تتعرض لها الموارد الطبيعية على يد النظام الرأسمالي ورجاله.  وبالتالي، لا يمكن لغير ثقافة سلمية، معادية للرأسمالية ومحترمة للشعوب والطبيعة أن تلغي الاستغلال والتمييز اللذين تتعرض لهما نساء الكون...

خلاصة

إذا كان يُؤخذ ماضياً على الحركة النسوية استئثار النساء بعضويّتها واستبعادهنّ الرجال، فتبريرها كان يأتي من قرار بعض مكوّناتها الابتعاد في المرحلة الأولى عن المجتمع وأخذ المسافة عن آلياته التي همّشت النساء والتفكير بواقعهنّ، قبل مواجهته في المرحلة الثانية والانخراط في الصراع ضد مظالمه.

أما اليوم، فالحركة النسوية تحاول بتيّاراتها المختلفة والمتجدّدة الفِعل في المجتمع نفسِه بالتعاون مع القوى التغييرية، وهي تقترح، كما معظم الحركات الاجتماعية، تحوّلات وتغييرات تطال بنية المجتمع ككلّ، وتُقاوم عولمة مساوئه.

ولعلّ تجربة "المسيرة العالمية للمرأة ضد العنف والفقر" ومشاركة النسويين والنسويّات الكثيفة في اللقاءات المواطنية العالمية، كما كتاباتهنّ السياسية وأصواتهنّ في الكثير من المنتديات والمحافل الأكاديمية والإعلامية والاجتماعية تشير الى بداية خروج معظم مذاهب وتيّارات الحركة النسوية من "انعزاليّتها" الأولى، وبحثها عن آفاق جديدة، ولَو أن الطريق أمامها ما زالت طويلة...

نادية عيساوي
ترجم النص من الفرنسية زياد ماجد
نُشر النص في جريدة السفير البيروتية في 8 مارس 2002