Tuesday, September 29, 2009

في أصل البلاء: الاستبداد

يذكّرنا الأداء الفضائحي للزعيم الليبي في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة بمدى الانحطاط المهيمن على المشهد السياسي العربي.
فأن يهذي "رئيس دولة"، سبق وصوله الى نيويورك ضجيجٌ حول المكان الذي قد يسعى لنصب خيمته الشهيرة فيه، لمدة ساعة وأربعين دقيقة، دون خشية تقييم لما يقول أو رصد لما يفعل، فالأمر مدعاة تأمّل في هول البلاء الذي أصاب الجماعة التي يُفترض أنه "يُمثّلها" منذ أربعين عاماً!
ذلك أن القول بالصفقات الدولية التي سمحت له بالبقاء على رأس بلاده، والتذكير بأنه دفع نقداً ونفطاً وشراءً للسلاح ثمناً لها، لا يكفيان لتفسير تربّع العقيد على عرش ليبيا منذ انقلابه في الفاتح من أيلول عام 1969. وهذا ما يحيلنا ربما الى البحث تكراراً في ما يفعله الاستبداد في المجتمعات المنكوبة به، وفي قدرته مع الوقت على تهشيمها – وهي المصابة أساساً بأعطاب النظم البطريركية والتركيبات القبلية والعشائرية – وجعلها متكيّفة معه وعاجزة عن إنتاج البدائل عنه، أو حتى وسائل الضغط الجدّية عليه.


وما يفعله الاستبداد يقوم على المزج بين "المأسسة" للأدوات القمعية والرقابية التي تدير شؤون البلاد والعباد، و"الشخصنة" المتمحور حولها كل إنجاز والمتحوّل عبرها التراجع تقدّماً. وهو يخلق عبر مزيجه المذكور مستويين من التعاطي مع المجتمع: الأول ملموس ومادي، والثاني رمزي ومعنوي، وكلاهما يودي الى المصيبة عينها...
في المستوى الأول، يؤسّس الاستبداد أجهزة مخابرات متعددة ومراكز قوى تأتمر به مباشرة، ويراقب الواحد منها الآخر، وتنشر جميعها الصمت والموت، كما تخنق المدن بوصفها مراكز الثقافة والانتاج والتنوّع.
ومع مرور الوقت، ينجح الرعب والتسلّط المباشر في تحويل عنفها الى عنف رمزي. فيكفي أن يخاف الناس من بعضهم ويراقبوا ذواتهم ويقمعوا آراءهم "لتجنّب الشرّ" حتى يستتبّ الأمر "للأشرار" ويطمئنّوا الى سيطرتهم.
وبالترافق مع ذلك، يشكّل حزب الاستبداد الحاكم (أو جماعته الأهلية)، بموازاة الأجهزة القمعية والبيروقراطية، أداة أخرى للنظام و"قاعدة اجتماعية" له. فمن خلال المنظمات و"المؤتمرات الشعبية" التي تضم الاتحادات النقابية والقطاعية كافة، ومن خلال الفروع التي تراقب المدارس والجامعات ومناهجها والإعلام العام وبرامجه، وتجيز تقديم منح التخصص وتوفير فرص العمل أو حجبها، يسيطر "النظام" على الشأن العام ومختلف مساحاته ومواقعه. فتصبح الطاعة له والولاء (ولو كذباً) قاعدة استمرار للناس وعيشهم بأمان.
أما في المستوى الثاني، فلا يظهر الحاكم قائداً لمجتمعه ونظامه فحسب، بل يتحوّل وسيلة لإقناع الناس بما "ينبغي" الاقتناع به. فيحيط شخصه بألقاب ويختلق حقائق ويلزم الجميع بتصديقها، أو بالتظاهر بتصديقها، وينشر صوره في طول البلاد وعرضها بوصفه "الأب المحبوب والزعيم المفدّى والسدّ في وجه المؤامرات". فتصبح رمزيّته المدّعاة هي ذاتها رمزية "الأمة" أو الوطن لاختصارهما بشخصه وبهامته.
بهذا، تنتفي إمكانية بروز القيم التعاقدية بين المواطنين، كما بينهم وبين "دولتهم"، ويتحوّل الحاكم الى شخص معنوي مفروض تقديسه، لا يجرؤ على المس به أو تناوله أحد، وتموت السياسة وتذبل الثقافة وتزداد أوصال المجتمع تقطّعاً، فيصبح عجزه عن إنتاج الحيويات والمبادرات شاملاً.
النتيجة: أن شخصاً مثل القذافي الذي يبدو اليوم في زيّه الفولكلوري وتصفيقة شعره وكتابه الأخضر أقرب الى التهريج منه الى أي شيء آخر، يتصرّف منذ عقود بمليارات الدولارات، وبحياة الناس إن شاء، ويعيّن نفسه ناقداً أدبياً وروائياً (على طريقة صدّام) ومصمّم سيارات ومفكّراً وحاملاً لواء العالم الثالث بأسره. ويصير طبعاً فرجة في المحافل الدولية يثير السخرية، والسخط، والحزن...
زياد ماجد