Friday, September 4, 2009

في المعضلة اللبنانية

يبدو جلياً من تاريخ الأزمات في لبنان، في أعوام 1958 و1969 و1975 ومنذ 2005 حتى اليوم، أن النظام السياسي المستند الى بعض مبادئ الديمقراطية التوافقية لم يفلح في لجم التوترات ومنعها من التحوّل الى صدامات سياسية وأحياناً حروب. كما أن الفلسفة الناظمة له والقائمة على أساس البحث عن المشترك وبناء السلطة بالتحالفات الموسعة لتمثيل المكّونات العامودية للمجتمع لم تتمكّن من استيعاب الجميع أو طمأنتهم. وصيغة التوزيع الطائفي للمناصب في الدولة لم ترض الجماعات اللبنانية المختلفة التي راحت مع كل تبدّل تبحث عن تغييرها وعن تطبيق ما تعتبره أكثر تناسباً مع توازن القوى الطائفي المستجدّ (والمتحرّك).

يضاف الى ذلك، أن التأثير السياسي الضاغط للمحيط الإقليمي على اللبنانيين وعلى القسمة بينهم وعدم تمكّن هؤلاء من بلورة موقف موحّد تجاه الصراعات والخلافات الدولية والعربية وأشكال الانخراط فيها أو النأي عنها، لا بل اندفاع فئات عديدة منهم الى الانخراط في محاور متناحرة، أتاح للصراعات السياسية أن تتسلّل الى مؤسسات الدولة نفسها وتشّلها خلال الأزمات نتيجة تعدّد الرؤوس في النظام وانتمائها غالباً الى المحورين الخارجيّين المتنابذين. وهذا ما عطّل الحكم ونقل الاحتقان في أكثر من لحظة مفصلية الى الشارع.
ولعل متانة المعادلات الطائفية الحاكمة والتي لم تتعدّل سوى الحصص فيها منذ بدء تطبيقها عام 1943 وحتى اتفاق الطائف عام 1989 (ثم موجبات اتفاق الدوحة عام 2008)، وهي متانة تسبّب مناعة تجاه المحاولات الإصلاحية العميقة وتحشد دفاعاً عنها كتلاً طائفية كبيرة لا تُعنى سوى بما ستناله من مواقع وتحصر بالتالي هواجسها ومساعيها التعديلية بلعبة الأحجام في السلطة، لعل هذه المتانة هي ما يصعّب شروط تطور النظام السياسي التوافقي ويمنع بعض جوانبه من النجاح.



لذلك تبدو علامات الثبات في النظام علامات ضعف أكثر منها علامات قوة. لأن الثبات هو أقرب الى التمسّك بمؤدّيات النظام والحصص التي يؤمّنها في مؤسساته لممثّلي الطوائف، أكثر منه قرباً الى فلسفة التوافق التي تحاول توزيع مسؤوليات على الممثّلين هؤلاء لضمان استمرار تعاقدهم الوطني. كما أن التصاق الأكثريات الطائفية بنخبها في لحظات التأزّم، ولو أنه آلية دفاع عن هوية جماعية وعن مصالح يتوهّم أبناء طائفة امتلاكهم بشرطهم الطائفي لها، يجعل كل تنازل يمكن الإقدام عليه خلال البحث عن تسوية هزيمة جماعية للطائفة المذكورة وليس لنخبة معينة فيها. مما يجعل الحيلولة دون وقوع الهزيمة المفترضة كما الاستسلام لها مُنطلقين على حد سواء لتعبئة وحشد واحتمال صدام مع الطائفة الأخرى الصاعدة أو مع التحالف الطائفي المضاد. أكثر من ذلك، يجعل هذا الأمر النخب الطائفية نفسها قادرة على التكيف مع المتغيرات وقادرة على الالتحاق بأي مكوّن صاعد في طائفتها إن تمكّن من شق طريقه بطرق سلمية أو عنفية كما جرى خلال الحرب وفصولها المتتالية.

هل هذا يعني أن ثمة بديلاً عن التطبيقات الراهنة للنظام السياسي "التوافقي" ينبغي السير به؟
لا يبدو الجواب إيجابياً لأن تخيّل البديل ليس بسهولة انتقاد القائم، ولأن التغيير في ظروف احتقان ومخاوف ديمغرافية قد يكون أخطر من الإبقاء على السائد. وهذه معضلة الحالة اللبنانية منذ عقود.
على أنها معضلة قابلة للفكفكة يوماً ما، إن توفّرت الظروف والإرادة لذلك، وهذا شأن آخر...

زياد ماجد