Tuesday, April 7, 2009

في العونية السياسية

تثير العونية الفضول على مستويين: مستوى الخطاب الذي تحمله والذي يعبّر عنه الجنرال ميشال عون في معظم إطلالاته، ومستوى المزاج السياسي والاجتماعي المتلقّي لهذا الخطاب والموالي له أو لما يهدف إليه.
ويمكن أن نضيف مستوىً ثالثاً الى هذا الفضول يرتبط بالعلاقة التراتبية بين المستويين الأوّلين المذكورين، أي هل يسبق الخطاب العوني المزاج وبالتالي يؤدي (في ما يؤدي إليه) الى تشكيله، أو هو يلحق به وبالتالي يسعى الى تمثيله وتحويل مضامينه الى مفردات ومواقف "سياسية"؟

لنعد الى المستويين الأول والثاني، فلعلّ استطلاعهما يجعل الإجابة على الثالث ممكنة.

في معنى العونية
لطالما ساد انطباع أن العونية تكوّنت انطلاقاً ممّا رمزت إليه في أواخر الثمانينات من تمسّك بفكرة الدولة القوية المحميّة من المؤسسة العسكرية في مواجهة الميليشيات، وفي مواجهة الهيمنة السورية. وأنها بهذا المعنى عبّرت عن توق أكثرية مسيحية للتخلص من عبء أمراء القتال الأهلي، ومن ثقل الاحتلال الخارجي.
ثم نُظر الى العونية بعد اتفاق الطائف، بوصفها قوة شبابية وطلابية رافضة للتطبيع مع الأمر الواقع ومع الطبقة السياسية المتحالفة مع دمشق.
ثم قيل إنها غدت، بعد العام 2005 وخروج الجيش السوري وعودة عون الى بيروت، مركّب كراهيات يبغض القوات اللبنانية بوصفها ذاكرة حربية والحريريّة بوصفها سنّية سياسية (واقتصادية) مهيمنة والجنبلاطية بوصفها إقطاعاً مناوئاً. وأُضيف بعد "التفاهم" مع حزب الله عام 2006 أن طموح الجنرال الرئاسي والبحث عن تحالف "إبتزازي" في مواجهة الأكثرية البرلمانية صارا محرّكين أساسيين لها. 


لكن كل ذلك بقي، على صحّته التوصيفية، غير كافٍ لشرح ماهيّة العونية، على الأقل في سنواتها الأخيرة.
فالعونية صارت تعبّر عن مفارقة كبرى موجودة في السياسة والاجتماع المسيحيين في لبنان: نوستالجيا للقيادة "الفاضلة" (القوية) للبلاد معطوفةً على سلوك أقلّوي (ضعيف) يبحث عن تحالفات. أي أنها حنين الى ماضٍ سابق للحرب وتصرّف خطابيّ على أساسه، يترافق مع تعاطٍ أقلّوي لاحق للحرب يرى في الالتصاق بأقلية أخرى، ثم القفز خلف الحدود لملاقاة أقليات في المنطقة، حزام نجاة داخلي – خارجي يلجأ إليه لمواجهة أكثرية (داخلية – خارجية بدورها) يتّهمها بالمسؤولية عن تهميشه وعن إفقاده دوره القيادي.
ولعل الخطاب العوني يظهّر هذه المفارقة على نحو جليّ. فإلى اعتماده شعارات بناء الدولة ومحاربة الفساد والإقطاع وكَيله الاتهامات بالعمالة وبالمسؤولية عن الديون، وتهديده بمحاسبة الجميع وإطلاقه العنان للشتائم والتشبيهات السوقية لإظهار بأس وقوة تمثيل واستقلالية تحرّك عواطف المفتّشين عن "المجد الضائع"، يرسم الخطاب نفسه خريطة للبنان يتراجع فيها الالتصاق التاريخي بالحدود الجغرافية بوصفها حدوداً كيانية اعتبرها الساسة المسيحيون على الدوام صمّام أمان لوجودهم ولدورهم. ويتقدّم مقابل ذلك طرح يحاول تبرير نفسه "بالمشرقيّة" لتغطية اندفاعه خلف الحدود بحثاً في تحالفاته الأقلوية الناشئة.

... بعض المزاج الشعبي هو ما حماها
لذلك ربما، ولأن العونية امتَحنت في أكثر من مناسبة نجاحاً في التعبير عن بعض المزاج المسيحي هذا، لم تعد تبالي كثيراً إن هجت الفساد وهي قابعة في أحضان أبرز المرتبطين به، وإن قارعت الإقطاع متحالفة مع رموز تاريخيين له، وإن هاجمت الميليشيات وحليفها الأساسي يملك الميليشيا الوحيدة المستمرة في البلاد، وإن دعت لقيام الدولة القوية وهي منتمية الى معسكر يمنع عن الدولة هذه قرارات الحرب والسلم ويقيم على أرضها أجهزته الخاصة، وإن ادّعت التقدّمية والعصرنة والعلمنة في وقت تُزايد طائفياً وادّعاءَ حمايةٍ لحقوق المسيحيين، وإن اتّهمت خصومها بالتفريط بالسيادة في لحظة تحالفها مع من أمعن انتهاكاً للسيادة طيلة عقود، وإن هاجمت ضحايا الاغتيالات السياسية وهي تجاهر باتصالها مع المتّهمين بقتلهم...

هل هذا يعني أن العونية صارت مزاجاً مسيحياً سائداً؟
ليس بالضرورة. وهنا ربما تمكن الإجابة على سؤال المقدمة حول التراتبية بين خطابها وبين المزاج المتلقّي له. فالعلاقة جدلية تجمعهما ويتغذّى كل منهما بالآخر. وهي مؤقتة ومرتبطة بجملة ملابسات تأسّست في المنتصف الثاني من الثمانينات وتكرّست في حقبة التسعينات حين شهدت النخبة السياسية اللبنانية تغييراً هائلاً في توازناتها وتركيبتها، ولم تعدّل أحداث العام 2005، على خطورتها، كثيراً من تداعيات ذاك التغيير، وأهم عناوينه ما اصطُلح على تسميته بالتهميش المسيحي.  
هكذا، التصقت العونية بجزء من مزاج لم يُفلح مخاصموه في الفترة الماضية في تفكيكه وإظهار تهافت منطقه، ولأسباب ذلك بحث آخر. وصار الرهان الأساسي هو على تراكم الأخطاء والهفوات من داخل الخطاب العوني نفسه (في لحظات انفعال يمكن نسبها الى علم النفس أكثر منه الى علم الاجتماع أو السياسة)، لإضعاف العونية و"تعكير مزاجها" الشعبي على حد سواء.
على أن تفكيك العلاقة ممكن، وتعديل المزاج وجعله أقلّ تقبّلاً للخطاب أو صناعةً له ممكن أيضاً. وقد نكون اليوم على أعتاب امتحان كبير لهاتين الإمكانيتين... 
زياد ماجد