Monday, March 16, 2009

حدود التسامح

لا يمكن لرصانة في السياسة أن تعتبر القضية الطائفية في لبنان مسألة يمكن تجاوزها بقانون أو بشعار والتعاطي معها بشتم أو بهجاء. فالطائفية مسار معقّد وحالة يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي بالثقافي بالاقتصادي بالخدماتي، على نحو يعيد إنتاج تجلّياتها في المؤسسات وفي الوعي العام وفي حالات الاصطفاف إثر الخلافات السياسية على القضايا الداخلية والخارجية وعلى التأثير فيها والتموضع تجاهها.
على أن الطائفية هي أيضاً سبب لتشكيل ولاءات في السياسة ووعي في الاجتماع تحيل كل مسألة مطروحة في لبنان الى مصالح تخال الجماعات نفسها معنيّة في التعامل معها إنطلاقاً من هويات تعبر المناطق والطبقات، وتنسج أوهاماً وحقائق يبدو معها الانتماء أو القيد الأولي الثابت الوحيد، وكل ما عداه متغيّر.
وإذا ما أضيفت الى ذلك قوانين وتشريعات، أو أعراف وممارسات، تكرّس الربط بين الطائفة والسلوك السياسي والإداري والخدماتي والشخصي، وتجعل التمثيل في لحظات الأزمات احتكاراً (عبر نظام انتخابي يقوم على المبدأ الأكثري البسيط) لجهة وحيدة ضمن كل طائفة تلغي التمايزات وتدّعي الدفاع عن مكانة الطائفة بوصفها جسماً تتماهى مكوّناته وتفوّضها النطق باسمها والتفاوض على "حقوقها"، وقعنا إثر كل مشادة على تصاعد حاد في الخطاب والتحريض والتعبئة الطائفية، وصرنا أمام مجموعات من الناس على أهبّة الاستعداد للانقضاض على بعضها ولإنشاء حدود داخل المدن والبلدات بين المناطق والأحياء حيث تقطن الأكثريات المتواجهة أو تمارس سيطرتها وتعبيرها عن طقوس ولاءاتها.


 وقد عرفنا في لبنان لحظات درامية عديدة في تعرّج المسارات الطائفية وفي تبدّل التحالفات وتغيّر الأحجام والتوازنات، وخضنا حرباً ضروساً ما زالت آثارها الى اليوم قائمة. وهي جميعها قد بيّنت لنا:
- قدرة الطائفية على استيعاب الحيويات المختلفة وتفكيكها وتطبيعها مع عصبيات مذهبية في اللحظات المفصلية.
- قدرة النظام الطائفي على كفالة بعض الحريات وحماية التنوّع السياسي من خلال توازنات الرعب التي يقيمها بين المجموعات الطائفية المختلفة في حالات الاستقرار، وعجزه عن إيجاد الحلول أو حتى إدارة الأزمات كل ما وقع انقسام داخلي على الخيارات الإقليمية للبلاد، أو حتى على الأحجام في المؤسسات، دون صدامات أو وساطات وتدخّلات خارجية.
- عجز النخب العلمانية عن تحويل خطابها وثقافتها الى تيارات شعبية قادرة على الضغط من أجل تعديل في القوانين والممارسات يقلّص مساحة الطائفية في الحياة العامة، لسببين: أوّلهما أن قضايا الفرز السياسي في البلاد، التي أثمرت انقسامات طائفية، قسّمت العلمانيين أيضاً ودفعتهم الى التواجه والتمركز داخل معسكرات متقاتلة. وثانيهما، أن العلمنة في ذاتها، لا يمكن أن تكون هدفاً مفصولاً ومستقلاً عن السياقات السياسية المصيرية التي يمرّ فيها لبنان.
 وعلى هذا الأساس، يمكن القول اليوم، إن رفع شعار العلمنة وحده بحجة انتماء يساري أو تقدّمي لا يقدّم الكثير في المعركة السياسية الدائرة، حيث الاستقلال والاستقرار وبناء الدولة (أي دولة) هي العناوين "المركزية". وتأتي العلمنة، كما العدالة الاجتماعية، لترفدها بأفق يساري، وبما يمكن أن يحصّن الدولة والمجتمع لاحقاً، أي بعد استتباب الأمور، من مخاطر الانزلاق المتجدّد (وربما الحتمي) الى الانفجار أو التنافر.
 هل يعني هذا حياداً تجاه المؤسسات الدينية والخطابات الطائفية والممارسات المذهبية هنا أو هناك بحجة المعركة الكبرى؟
أبداً. فالمعركة الاستقلالية التي يخوضها جزء كبير من اللبنانيين، تتطلّب توسيع التحالفات قدر الإمكان للفوز بها، لكنها تتطلّب أيضاً تأكيداً على ثوابت مواطنية، لا علوّ كعب عليها، ولا فتوى شرعية أو حرماً كنسياً أو عنصرية مذهبية تظلّلها.
والمساومة المطلوبة لحماية الأولوية الوطنية لا تعني طغيان صوت المعركة وحده على ما عداه، وللمرونة في المواقف حدود يُدافع عنها فور اختراقها على نحو يهدّدها في وجودها... ذلك أن السماح بتسلّل قوانين "إلهية" الى المعركة الاستقلالية نفسها قد لا يُلغي مع الوقت "وضعيّة" قوانينها وتحالفاتها فحسب، بل هو قد ينسف المعركة بأسرها...
زياد ماجد