Thursday, December 25, 2008

حين يُعدّ الشتم والتخوين "حرّيةً" وحقاً في النقد

يستغرب بعض الصحافيين والإعلاميين أن يؤخذ عليهم وعلى أسلوب منابرهم في السجال إيغال في الشتم وبذاءة اللغة، أو استضافة غير مشروطة لكتّاب وزوّار اختصاصيين في الهجاء السوقي. فالقدح والذمّ بعرفهم حرّية وأسلوب حديث في الكتابة لا وجاهة في اعتباره قلّة أدب أو إسفاف.
ويتحوّل استغراب هؤلاء الى استنكار شديد إن أُشير إليهم بأن تقذيعهم إذ يحمل مفردات التخوين وتوجيه الاتهامات الخطيرة في لحظات احتقان سياسي وطائفي كالتي نعيش، يصير الى التحريض على العنف المباشر أقرب منه الى القدح والذمّ أو التنكيل اللفظي.
ولعل بعض التدقيق في ملابسات الاستغراب والاستنكار المذكورَين مفيد.
فأن يمنح أحدهم في مقال أو افتتاحية صفة العمالة لإسرائيل لكتّاب وسياسيين من المعسكر السياسي المقابل، أو أن يسمّي آخر حكومة السنيورة الماضية "بحكومة أولمرت" فيصبح أعضاؤها مثلاً ممثّلين لكاديما وشاس والعمل وحزب ليبرمان، وجُب بناءً على ذلك – ووفق العقلية السائدة - تقبّل مبدأ إنزال القصاص بهم كفّاً لشرّهم وعمالتهم، ثم الاشتراك في حفلات توزيع البقلاوة وإطلاق المفرقعات اللاحقة على تنفيذ بعض الأحكام – الاغتيالات - بحقّهم. فهذا من عناصر الابتهاج بالخلاص من عملاء موصوفين، وهو لم يقتصر بأي حال على رعاع في الشارع. ألم يعبّر "إعلاميّان" على إحدى الشاشات عن اغتباطهما بجريمة مروّعة وتمنّيهما خطف الردى لخونة – طرائد إضافيين؟ ثم ألم تُترجم مقولات تردّدت على ألسنة سياسيين وصحفيين بحق أشخاص ومؤسّسات الى هتافات في شوارع رافقت اعتداءات على الأشخاص والمؤسسات إياهم بالحرق والضرب وإيقاع الأذى؟
وما هي المسافة بين العنف بالكلمة والضرب بسكين أو حتى بالنار حين يُجعل المُعنّف شراً في ذاته تثير إحالته المباشرة الى "إسرائيل" في المخيّلة الجماعية تاريخاً من الدم وواقعاً من الخراب قد يخال الجمهور نجاح الثأر لهما ومنهما إن أزال هذا الشر؟
والأهمّ، هل يستقيم القول برفض اتّهام بالانغماس في لغة التحريض والافتراء عند استفحال واقع مهترئ تخترقه الاغتيالات والتصفيات ومناوشات الأزقّة وهتافات الحمية المذهبية والحرب على "يهود الداخل"؟
إن التظلّم واعتبار الاستنكار لأسلوب لا مسافة فعلية في أسطره بين الشتم والتخوين ومؤدّياتهما افتئاتاً على "الحق في النقد"، يبدوان في وضعنا الراهن دفاعاً لا عن حرية في التعبير – ولو بذيئاً جاء - بل عن صيغة ثقافية سياسية يُراد تعميمها، تقوم على اعتبار صراحة الحقد والكراهية والنسج عليهما بمفردات عدوانية وأدوات رقيعة جزءاً لا يتجزّأ من الحيوية الإعلامية والنجاح في الانتشار واستقطاب القرّاء والمشاهدين ومشافهي فتات الإشاعات، وتدفع المختلف لا الى السجال الفكري أو السياسي وأناقته، بل الى محاولة الدفاع عن نفسه ونفي التهم عنه والرضوخ بالتالي لابتزاز وضيع. فأن يكتب المرء ليعلن براءة من عمالة لإسرائيل، أو من ارتزاق مالي لا يأتي من عمل مشروع، أو من ولاء ظلامي (يرشقه به أحياناً من يوالي جهراً ظلامية مقابلة!)، وأن يُضطر الى التذكير بكتابات له وبمواقف وممارسات ليدفع عن نفسه شبهات يريدون وصمه بها، فالأمر مخزٍ، ولا تُقبل معه أيّ من التبريرات "المهنية" بالمطلق، أي بمعزل عن كل واقع وحال اجتماعي وسياسي في البلاد. كما لا يُشكر على السماح بنشره بوصفه ردّاً، إلتزاماً بديمقراطية مزيّفة، من يسمح في البدء بكيل الموبقات والتهم جزافاً، وفق "الالتزام" نفسه.

وكي لا يبدو الأمر تركيزاً على جهة وحيدة، أو على طرف سياسي بحاله، بإعلامه ومناصريه الكتّاب رغمه سبقهم المبين في هذا الباب، ينطبق بعض ما ذكر على ردود فعل تأتي أحياناً على شدّة في العنف، وقد شهدتها صفحات ومنابر خلال السنوات الماضية في هجمات مضادة حملت مثالب وضغائن تخطّت في الكثير من الأحيان حدود السياسة والنقد المباح، ولامست تخوم التعصّب الأعمى وادّعاء الحق المطلق.
لكنها، ومن دون تبرير لمضامينها، جاءت جواباً في لحظات انفعال معمّم على استباحات طالت وتمادت وترافقت مع قتل واغتيال واحتلالات واجتياحات إستهدفت – بمعزل عن هوية منفّذيها – جهة واحدة هي المنتمي إليها جميع المغدورين، وهي المخوّن أعضاؤها ومريدوها منذ البداية.

هل بعد ذلك، يمكن التذكير من جديد بنصوص قانونية ومواثيق ترعى عادة حرية النقد والسجال والاختلاف والتنافس، وتحول دون إيصالها الى الدرك الأسفل من التشهير والتعريض والتزوير والتخوين؟ في حسبنا، لا مفرّ من ذلك، لأن الفارق إن انتفى بين نزق الشارع وصرخته للضرب، وبين لغة الكتّاب وكاميرات الصحافيين، صار وقف الحروب وسيلان الدماء والتناحر من بعده صعباً، وصار التصدّي لأجهزة القتل وعصاباته أصعب.
زياد ماجد